لا يمكن بحال من الأحوال حصر حالات التنمر والإساءات التي تعرضت لها سيدات وشابات كثيرات من ناشطات الثورة السورية خلال سنوات الثورة، خصوصا بعد عسكرتها وأسلمتها واعتبار كل من هو ضد العسكرة والأسلمة طابورا خامسا في الثورة وأولهن الناشطات اللواتي بدأت محاولة إقصائهن مع بداية العسكرة؛ ذلك أن الصفحات التي فتحت لشتمهن والنيل منهن والمقالات الصحفية الصفراء التي تناولتهن بالاتهامات والتشهير ومنشورات الفيس بوك التي كتبها (مثقفون ثوريون) للإساءة لهن فاتحين المجال للغوغاء لنعتهن بأقذع الصفات جعلت من تلك الحالة ظاهرة شبه عامة وتحتاج إلي بحث عميق لفهم كيف يفكر المثقفون السوريون، أو بعض المثقفين السوريين، كي لا نعمم، ذلك أن في التعميم خطأ كبيرا يستهدف الحقيقة أولا، خصوصا أن هؤلاء مثقفون يدعون أنهم مع الثورة السورية، أي يفترض أنهم منحازون للتغيير، والتغيير، كما يفترض بالمثقف أن يفهمه، لا يكون فقط للنظام السياسي، بل الأهم هو تغيير الذهنية التي تركبت منها وعليها المنظومة السياسية المستهدفة، الذهنية الإقصائية التي لا تتورع عن استخدام أقذر الأساليب في محاربة معارضيها أو منتقديها؛ وهي الأساليب التي استخدمها مثقفون يمكن ببساطة إطلاق تهمة التشبيح عليهم دعما للنظام، فهؤلاء كتبوا المقالات والمنشورات التي تحوي كما مذهلا من الشتائم والاتهامات التي كان لها مفعول رصاص سام يطلق إلى صدور وقلوب ورؤوس الناشطات والمثقفات السوريات، ومثلهم قد فعل مثقفون ثوريون لم يوقفهم أي شيء عن الإساءة للناشطات بكل طرق الكلام الممكنة؛ والكلام رصاص سام في كثير من الأحيان حين يكون ما يحويه ملفقا أو ظالما أو مستبيحا للشخصي في حياة الناشطة.
نادرا ما نجت سيدة أو شابة سورية لها رأي مختلف في الرؤية إلى ظاهرة ما متعلقة بالثورة خلال السنوات السابقة من سموم الذكورة السورية الثورية والتشبيحية
ولطالما ظهر أثر ذلك على شكل أمراض وعلل في الجسد، ونادرا ما نجت سيدة أو شابة سورية لها رأي مختلف في الرؤية إلى ظاهرة ما متعلقة بالثورة خلال السنوات السابقة من سموم الذكورة السورية الثورية والتشبيحية؛ حتى لو كان الرأي مجرد خاطر انفعالي كتب أو قيل في لحظة عاطفية متأثرة بحدث آني، لكن ذلك لم يكن يشفع لصاحبة الرأي، فهي سوف تضطر هي وعائلتها وأولادها وأبويها وأحبتها إلي قراءة كل تلك الافتراءات القذرة وكل ذلك التهتك في الحديث عنها من قبل غوغائيين موتورين قادهم مثقف مؤدلج دينيا أو قوميا أو ذكوريا، ويعتقد اعتقادا راسخا بأنه صاحب الحقيقة الوحيدة التي يستحق من ينكرها عقابا بهذه القذارة.
قد يرى البعض في هذا الكلام مبالغة (نسوية) ضد الذكورة، لكن دعوني أقدم بعض الأمثلة عن ناشطات سوريات راحلات دون التطرق إلى اللواتي ما زلن علي قيد الحياة ومنهن من كانت وما زالت تتعرض لحملات تشنيع لا يمكن وصفها إلا بالقذرة نتيجة تصريحهن بآراء مختلفة ومخالفة لسائد ما سواء علي صفحاتهن الشخصية علي وسائل التواصل أو في الميديا عبر حوارات أو مقالات، وذريعة أصحاب الحملات الدائمة أن الناشطات يعملن في المجال العام ومن يعمل في المجال العام عليه أن يحتمل النقد، وهذا كلام فيه الكثير من دس السم بالعسل كما يقولون، ذلك أن الشخصيات العامة عادة ما تكون تحت الضوء، وفي السياسة والثقافة والفن والرياضة والصحافة سيكون عمل ومنتج هذه الشخصيات معرضا للنقد، فلا يوجد أيقونات في هذه المجالات، ولا يوجد من هو فوق النقد أو لا يجوز المساس بأدائه. خصوصا في العمل السياسي العام الذي يمس قضايا شعبية وأوطانا وحاضرا ومستقبلا، لكن هل الحملات ضد الناشطات السوريات كانت نقدا لأدائهن في الشأن العام؟ فدوى سليمان ومي سكاف ورغدة حسن وسميرة الخليل ورزان زيتونة وبسمة قضماني، هن ناشطات ومثقفات سوريات دعمن الثورة بكل إمكانياتهن، وباستثناء سميرة خليل ورزان زيتونة المخطفتين منذ عشر سنوات من قبل جيش الإسلام الذي يفترض أنه أنشئ دعما للثورة، فإن الناشطات الأربع الراحلات رحلن جميعا بأمراض قاتلة، ظهرت لديهن بعد الثورة، وجميعهن فتكت بهن حملات تشويهية وإساءات بالغة تعرضت لحياتهن الشخصية ومست قيما أساسية في شخصياتهن، واتهمن بأفظع الاتهامات وأشنعها وأكثرها أذى وضررا. وإذا عدنا إلى متزعمي تلك الحملات وبادئيها سوف نجد أنهم مثقفون يدعون أنهم ديموقراطيون وإنسانيون وأصحاب مبادئ وقيم أخلاقية كبيرة كانت تسقط مباشرة حين يتعلق الأمر برأي لناشطة يتعارض مع إيديولوجية هذا المثقف أو ذاك.
لم يستطع المثقف السوري الثوري التخلص من رواسب الذكورة السلطوية التي ترسخت في لا وعيه في مجتمع تسيدت فيه ذكورية فجة أصلا بسبب الخوف المديد من الاستبداد
للأسف لم يستطع المثقف السوري الثوري التخلص من رواسب الذكورة السلطوية التي ترسخت في لا وعيه في مجتمع تسيدت فيه ذكورية فجة أصلا بسبب الخوف المديد من الاستبداد، فتشكل في لا وعيه الجمعي عنف مركب هو مزيج من شعور بالاستحقاقية السلطوية المجتمعية مع رهاب عقاب السلطة السياسية الأمنية، هذا العنف المركب تأصل في اللاوعي الجمعي والفردي السوري، وحملته الكثير من النساء أيضا في تقمصهن لسلطة الذكر خشية عنفه، وعندما لاحت بوادر فشل الثورة واحتلت المشهد الثورة المضادة العسكرية الدينية (والعسكر والدين لطالما مثلا السلطة، الأرضية والسماوية) اختفى الحجاب الذي وضعته شعارات الثورة في بداياتها على اللاوعي الجمعي لدى المنحازين لها (بينما منذ البداية أظهر مؤيدو النظام وشبيحته العنف الحقيقي المتجذر في الشخصية السورية ومارسوه قولا وفعلا ورصاصا وقتلا وحرقا)؛ وظهرت طبقات اللاوعي العنيفة التي كانت تجد في الناشطات (لطالما كانت النساء هن الطرف الأضعف بين أنساق المجتمع) البؤرة الأمثل لاستقبال العنف. ليس لأنهن مستعدات لهذا الاستقبال بل لأنهن وحيدات ومطاردات من جهة النظام ومن جهة الثورة المضادة، ومن كانت منهن من الأقليات المحسوبة على النظام فهي متهمة من الجميع ومعرضة للعنف من الجميع.