لم يعد مستغربا ولا سرا أن الولايات المتحدة تريد الابتعاد عن الشرق الأوسط وحروبه ومشكلاته التي يبدو أنها لا تنتهي، بدا هذا التوجه واضحا منذ إدارة الرئيس أوباما الذي بدأ بتخفيض القوات في أفغانستان والعراق واستمرت السياسة نفسها بقوة خلال الفترة الرئاسية للرئيس ترامب والتي كرست أكثر السياسة الانعزالية للولايات المتحدة واهتمامها أكثر بشؤونها الداخلية والاهتمام بمستقبل علاقاتها مع الصين التي تعتبرها المنافس والخطر الحقيقي لمصالح الولايات المتحدة في العقود المقبلة.
والآن مع الرئاسة الديمقراطية التي يؤثر فيها تيار ديمقراطي قوي يدعو إلى عدم استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح سياسي وضرورة الحد من الوجود العسكري في مناطق النزاع المختلفة في العالم مثل أفغانستان والعراق وضرورة دعم حل الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لم يتغير هدف الإدارة بالانسحاب التدريجي والسريع من الشرق الأوسط بل تغيرت طريقة التعاطي مع المشكلات الموجودة في هذه المنطقة من العالم.
وهنا لدينا عدة أمثلة واضحة عن طريقة عمل وتفكير هذه الإدارة لقضايا الشرق الأوسط خلال فترة ال ١٠٠ يوم من عملها.
الرغبة الأميركية بهذا الاتفاق هو من المؤشرات حول رغبة الإدارة بالانسحاب من الشرق الأوسط
الملف الإيراني: تعاطيهم مع الملف الإيراني ورغبتهم بالتوصل إلى اتفاق بسرعة يحد من قدرات إيران النووية مقابل رفع بعض العقوبات عن إيران مع كل ما يثير ذلك من قلق لدى كل دول المنطقة وقلق منظمات حقوق الإنسان الدولية والإيرانية التي تخشى من تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، بدلا من الحد منه وازدياد حالات القمع ضد الشعب الإيراني، مما يعني مزيدا من عدم الاستقرار داخل إيران وبالمنطقة. ولكن الرغبة الأميركية بهذا الاتفاق هو من المؤشرات حول رغبة الإدارة بالانسحاب من الشرق الأوسط بعد حل واحدة من أصعب القضايا في الشرق الأوسط.
والاستفادة من الوقت الطويل الباقي للإدارة في الحكم تقريبا ٣ سنوات ونصف لمعالجة أي مشكلات تنتج عن الاتفاق نفسه سواء بالتعاطي مع إيران أو المشكلات التي تنتج عن هذا الاتفاق مع دول الجوار.
الأزمة السورية: كل التصريحات الصادرة من الإدارة تجاه الأزمة السورية محصور بالوضع الإنساني والإغاثي المرتبط بالأزمة السورية وليس بحل الأزمة نفسها، والتأكيد على ضرورة عودة المساعدات الإغاثية لكل المناطق السورية. ويرى القائمون على الملف السوري في الإدارة ضرورة التفاوض مع الروس وإمكانية تلبية بعض مطالبهم وخصوصا الاقتصادية المتمثلة برفع بعض العقوبات الاقتصادية أو إعطاء النظام بعض السلطات "الشكلية" على مناطق دخول المساعدات الإنسانية وخصوصا في منطقة الجزيرة لتثبيت شرعية الدولة السورية وذلك لتوافق روسيا على قرار المساعدات في مجلس الأمن في الشهر المقبل. وضرورة تصليح صورة الوجود الأميركي في سوريا بأنهم موجودون ليس لحماية النفط بل لحماية السوريين ومحاربة داعش وبالتالي سيتم إيقاف العمل بالرخص الممنوحة للشركات الأميركية للتنقيب عن النفط وبالوقت نفسه تخصيص أموال من أجل دعم الاستقرار في منطقة الجزيرة.
وبالوقت نفسه تبقي الإدارة الأميركية على موقفها السياسي من النظام بأنه غير شرعي وأنها لن تعترف بالانتخابات وتعتبرها لا تحقق أيّا من معايير الشفافية الدولية أو لا تلتزم بتنفيذ أي من القرارات الأممية الخاصة بسوريا، وأن على النظام السوري أن يتجاوب مع مطالب شعبه بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتنفيذ القرارات الدولية والتخلص من الأسلحة الكيماوية وعودة المهجرين سلميا إلى بلادهم.
ولذلك كان قرار الإدارة تمديد قانون الطوارئ الاقتصادي الخاص بسوريا والذي أعلن عام ٢٠٠٤ عقابا للنظام السوري لانتهاكاته لحقوق الإنسان في سوريا ولبنان.
ما يريد الأميركيون قوله إنهم مع غياب جدية بالحل السياسي للأزمة السورية، هم غير معنيين ببذل الجهد والوقت لإيجاد ذلك الحل، فمهمتهم الآن – على المدى القصير- تقتصر على الجانب الإغاثي والإنساني وتخفيف معاناة كل السوريين سواء تحت سيطرة النظام أو خارج سيطرته، وعلى الدول المنخرطة في الأزمة السورية إيجاد الحل وفقا للقرار ٢٢٥٤.
غزة: أعلنت الإدارة عدة مرات أنها تدعم حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها وعطلت بيان مجلس الأمن الذي يطالب بوقف إطلاق النار ودعت إسرائيل إلى توخي الحذر بعملياتها العسكرية وعدم استهداف المدنيين والصحفيين وأضافت أن الجهود الإقليمية مهمة جدا لإيجاد آلية تفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين وخصوصا مصر وقطر والأردن وهي ستدعم هذا الجهد لأنه ليس لها علاقة مع حماس كونها منظمة إرهابية بالنسبة لها ولن تتفاوض معها، وتأخرت بإرسال المبعوث الأميركي للمنطقة، كل ذلك يؤكد السياسة الأميركية التي تريد القول تعبنا من الشرق الأوسط وعلى دول المنطقة حل مشكلاتها وأنها ستدعم أي حل يتوصل إليه الطرفان بوساطة دول المنطقة.
الولايات المتحدة تأخذ المطالب الإسرائيلية الأمنية بجدية، إلا أن هذه الفرضية لا تغير من الرغبة الأميركية في التخفيف من انخراطهم في مشكلات الشرق الأوسط
رغم أن هناك من يقول إن الإدارة الأميركية تعطي إسرائيل الوقت الذي تريده في حربها في غزة حتى تخفف من معارضة إسرائيل للاتفاق النووي المتوقع التوصل إليه في الأسابيع المقبلة، والتأكيد على أن الولايات المتحدة تأخذ المطالب الإسرائيلية الأمنية بجدية، إلا أن هذه الفرضية لا تغير من الرغبة الأميركية في التخفيف من انخراطهم في مشكلات الشرق الأوسط.
في النهاية، من حق الأميركيين اختيار السياسة المناسبة لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية في العالم، ولكن ليس من حقهم ترك الشرق الأوسط دون إيجاد آليات واقعية، وعملية قابلة للحياة لمنع استفادة الصين وروسيا مثلا من الفراغ الأميركي أو ترك المنطقة بحالة عدم توازن تؤدي إلى مزيد من الحروب والإضرابات والتي الجميع بغنى عنها، وعلى كل السوريين أن يعملوا على تطوير أفكارهم وانتخاب قيادات جديدة للمعارضة تمثل الشارع السوري بشكل حقيقي تعيد المطالب الأساسية للثورة السورية من حرية كرامة وإسقاط النظام إلى الساحة الدولية، وما جرى في فلسطين هو درس للسوريين بأنه لا يموت حق وراءه مطالب.