كيف أسهمت سوريا في ولادة التاريخ المكتوب؟

2024.09.24 | 06:55 دمشق

آخر تحديث: 24.09.2024 | 06:55 دمشق

5344444444
+A
حجم الخط
-A

في عام 10 آلاف قبل الميلاد، شهد نمط حياة الإنسان في سوريا الكبرى تطورات هائلة سوف تترك أثرها على مستقبل الجنس البشري برمّته.

في ذلك الزمان، انتهى آخر عصر جليدي عانت منه الأرض وذابت الصفائح الجليدية العملاقة التي كانت تغطي مساحات واسعة من الكرة الأرضية بما فيها أوروبا.

لم تكن سوريا نفسها مغطاة بالجليد، لكن الجو فيها كان باردًا خلال تلك الفترة، ما أجبر الإنسان على الاختباء في الكهوف والمغاور.

ومع نهاية العصور الجليدية، تحولت سوريا بسبب موقعها إلى "أرض المركز"، حسب بعض الباحثين، بالنسبة للتطورات اللاحقة في تاريخ الجنس البشري.

فقد ترافق انحسار الجليد مع ارتفاع درجات الحرارة وامتلاء الأرض بالقمح والشعير وتكاثر مختلف صنوف النباتات والحيوانات. وتمكن الإنسان في سوريا للمرة الأولى في تاريخه من مغادرة الكهوف، والتحلق حول أحواض المياه الدائمة، والنوم على ضفاف الأنهار والبحيرات. ثم مع الوقت، اخترع الإنسان ذلك المكان الرائق الذي نسميه "بيت" وبنى المساكن الدائمة، واستراح من كهفه ومن تجواله.

في الفترة بين 10 آلاف و8 آلاف قبل الميلاد، توسع الإنسان القديم في سوريا في بناء المساكن الدائمة، واعتمد على النباتات والأشجار البرية، وتحديدًا القمح والشعير والتين، وصاد الحيوان، وخصوصًا الغزال. ثم، لخوفه القديم من الفاقة في العصور الجليدية، خزن الإنسان الحبوب داخل مسكنه وأحيانًا في كومات كبيرة بجانب المسكن. مع تخزين الحبوب، لاحظ الإنسان السوري القديم أن الحبوب بدأت تنمو من تلقاء نفسها في فصل الشتاء، فاكتشف الزراعة، وراح ينثر الحب متعمدًا حول مسكنه متيقنًا أن السنابل ستبزغ نابتة من الأرض في الأشهر التالية، وسيكون لديه في الشتاء ما يكفيه من الطعام من دون أن يحتاج للانتقال مجددًا.

وهكذا، وبناءً على الدراسات التي جرت في سوريا الكبرى، توصل العلماء إلى تحديد تسلسل جديد لمراحل تطور الإنسان العاقل. فالإنسان لم يستقر لأنه اكتشف الزراعة، بل اكتشف الزراعة لأنه استقر. ولماذا استقر الإنسان في سوريا بعد مرحلة الصيد والالتقاط؟ الجواب هو كثرة الخيرات التي نعمت بها سوريا بعد نهاية العصور الجليدية. لم يعد الإنسان بحاجة إلى قطع مسافات طويلة كل يوم بحثًا عن النباتات والحيوانات الصالحة للأكل. لقد صارت سوريا بمنزلة "جنة عدن" للإنسان انطلق منها ليعمر الأرض برمتها.

في العصر الحجري القديم، كان الإنسان يعتصم بالكهف خائفًا وجائعًا، بردانًا ومستوحشًا، ويعيش في جماعات صغرى لا تتعدى خمس عائلات في مكان واحد.

كانت سوريا الكبرى إذًا (ولنا أن نستخدم أيضًا مصطلح الهلال الخصيب) مسرحًا لذلك التطور الكبير في نمط حياة الإنسان من الصيد والالتقاط إلى الزراعة. في سوريا انتهت العصور الحجرية القديمة، وبدأت ثورة حقيقية في أسلوب حياة الناس، أطلق عليها العلماء "ثورة العصر الحجري الحديث"، أو ثورة النيوليت. ومع أنها امتدت لألفي سنة، إلا أنها تبقى بنظر العلماء "ثورة" لأن نتائجها كانت خطيرة قلبت حياة الإنسان رأسًا على عقب.

في العصر الحجري القديم، كان الإنسان يعتصم بالكهف خائفًا وجائعًا، بردانًا ومستوحشًا، ويعيش في جماعات صغرى لا تتعدى خمس عائلات في مكان واحد. لم يكن ذلك الإنسان في موقع ملائم لبناء الحضارة وتمثيل الدور الخطير الذي أنيط به على هذه الأرض بوصفه الكائن الوحيد الذي امتلك العقل والوعي.

لكن "ثورة" العصر الحجري الحديث التي بدأت نحو 10 آلاف قبل الميلاد في سوريا، أيقظت وعي الإنسان، وأمدته أشعة الشمس الدافئة التي انبعثت في حينها بالشجاعة كي يترك الكهف، ويلتقي بأقرانه من البشر، ليطور لغته البدائية وينشئ القرية الأولى في تاريخ الإنسانية.

في ذلك الزمن المبكر، طحن الإنسان السوريّ القمح، وأوقد التنور، وصنع الخبز الذي يعتبر حتى اليوم المصدر الأول للكربوهيدرات عند الإنسان في كل أنحاء العالم. في قرية "أبو هريرة" مثلاً، على ضفاف نهر الفرات بالقرب من مدينة الطبقة، وفي قرية "جرف الأحمر" بالقرب من منبج الحالية، عاش الناس لأول مرة في التاريخ في قرى بلغ تعدادها مئات الأشخاص. كان واضحًا أن الطقس الجيد تسبب بانفجار في الحياة، ليس على مستوى النبات وقطعان الحيوان فقط، بل عند البشر أيضًا. فقد ازداد عدد السكان في سوريا زيادة هائلة. ولو أغمضنا أعيننا قليلًا وتخيلنا حال القرويين في أبو هريرة وجرف الأحمر عام 8 آلاف قبل الميلاد، لوجدنا مجتمعات متحضرة يقودها شيوخ عشائريون يعملون على تقسيم حصص الأراضي حول مساكن القرية، ويشرفون على بناء المستودعات التي يخزن فيها القرويون القمح والشعير والتين المجفف للشتاء التالي.

الإنسان القديم في سوريا كان أول من دجن الكلب قبل نحو 14 ألف سنة.

ولنا أن نتخيل أعدادًا كبيرة من الرجال يصنعون مصائد دائرية كبيرة لحصر الغزلان واصطيادها، يساعدهم في ذلك الكلاب، نعم الكلاب! فالإنسان القديم في سوريا كان أول من دجن الكلب قبل نحو 14 ألف سنة. وبقي الكلب لألفي سنة لاحقة الصديق الوحيد للإنسان من بين الحيوانات، قبل أن يقود الصيد المكثف إلى استئناس حيوانات أخرى بالصدفة، ويدخل على الخط الماعز والخراف والخنازير من دون أن يفقد الكلب أهميته كصديق قديم. فهو ما يزال إلى اليوم كما كان منذ 14 ألف سنة: مؤنسًا للوحشة، ومعينًا في الصيد، بل وشرطيًا يساعد في كشف المجرمين والعثور على المفقودين.

في عام 8 آلاف قبل الميلاد، اكتملت ولادة الزراعة كنمط حياة في سوريا الكبرى، ازداد عدد السكان، وانتشر الناس على مساحات أوسع.

أكل السوريون القدماء الرغيف، زال خوفهم من الفاقة، سيطروا على الطبيعة، وشكروا ربة الخصب السورية "عشتار"، التي تركوا لنا مجسمات رائعة لها في تل أسود على نهر بردى قرب دمشق. وفي مرحلة لاحقة، ستهاجر مجموعات من السوريين إلى ما بين النهرين وسط العراق، وإلى مصر أيضًا، حيث ستنقل بذور قمحها وحيواناتها وخبراتها الزراعية إلى الناس هناك. سيتمكن الإنسان من تسخير الأنهار لري الحقول عندما يتأخر المطر. ومع الحاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة لتنظيم عمليات الري، ستتحول القرية إلى مدينة، والمدينة إلى دولة. ومع قدوم الألف الرابع قبل الميلاد، سيقفز إلى مسرح التاريخ السومريون والفراعنة، وسيصبح لدينا وثائق نعرف بها أسماء الشعوب والدول، وآدابها ومآثرها، فقد نشأت الكتابة وولد التاريخ المكتوب.