في منتصف شهر أيلول المنصرم كان وزير الخزانة والمالية التركي الأسبق برات البيرق، يردد أن بلاده تأتي في المرتبة الثالثة بعد الصين وكوريا الجنوبية للدول "الأقل تضرراً" من تفشي وباء كورونا، وفقاً لتوقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ليلة الجمعة المنصرم بتاريخ 27 تشرين الثاني لم تكن الأرقام مشجعة أبدا. قرابة 30 ألف إصابة بينها ستة آلاف وخمسمئة حالة مرضية و177 حالة وفاة، وتقديرات تضع تركيا في مسار تصاعدي للأرقام المفزعة لا بد من التعامل السريع معها.
مؤسسات وشركات استطلاع رأي كثيرة كانت تعلن قبل أشهر تصدر وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة لائحة ترتيب الأشخاص والمؤسسات الأكثر ثقة مع بداية تفشي الوباء. اليوم تحاول المعارضة تحميله مسؤولية ارتفاع عدد الإصابات اليومية على هذا النحو.الوزير قوجة، الذي رضخ لمطالب الكشف عن أرقام الإصابات اليومية لم يفقد تفاؤله "امتثالنا للتدابير سيكون حاسماً بخصوص القيود إضافة إلى مسار الوباء" ، لكن هناك مؤشرات أخرى تقول إن الرئيس أردوغان يستعد للإعلان عن إجراءات جديدة محتملة لمكافحة انتشار فيروس كورونا مع تسارع تفشي المرض في أنحاء البلاد. التركيز دائما على مدينة إسطنبول بسبب كثافتها السكانية حيث يقول الوزير قوجة إن 40 في المئة من إجمالي الحالات رُصدت في المدينة التي وصلت إلى نسبة 5 أضعاف أرقام العاصمة أنقرة.
مسؤولية وزارة الصحة والمجلس العلمي الذي يساهم في تقديم التوصيات ورسم السياسات ستكون أكبر هذه المرة خصوصا وأن ارتدادات قرارات تخفيف التدابير في الأسابيع الأخيرة لم تكن مشجعة.
المرحلة الأولى من خطط المواجهة كانت في الانغلاق. المرحلة الثانية انتقلت إلى الانفتاح التدريجي وتليين قرارات الحجر. كلا المرحلتين تواجه حقيقة ارتفاع أرقام الوباء وتزايد انتشاره فكيف ستكون استراتيجية المرحلة الثالثة من المواجهة؟ الهدف ينبغي أن يكون أبعد من إعادة تسطيح منحنى البيانات اليومية وتقليص عدد الإصابات.
الواضح تماما أن التدابير التي اتخذت مؤخرا باتجاه الحظر والإغلاق الجزئي في أيام نهاية الأسبوع لم يعد كافيا وأن احتمال اتخاذ مزيد من القرارات لا مهرب منه لإبطاء انتشار الفيروس بانتظار اللقاح. القيادة السياسية تحارب على جبهتين معا، حماية المواطن وحماية الاقتصاد، لكن التضحية بالانحياز إلى الخيار الأول سيكون لها الأولوية في الأيام القليلة المقبلة أمام الارتفاع اليومي المقلق في أرقام الإصابات.
الجهود التي بذلت في تركيا لمواجهة انتشار الفيروس كبيرة جدا. لا بل إن تركيا كانت الأولى في العالم لناحية تقديم الدعم إلى العشرات من الدول لتمكينها من تجاوز هذه المرحلة الصعبة. لكن المؤشرات كلها تلتقي عند ضرورة اتخاذ تدابير جديدة سريعة لوقف ارتفاع الأرقام اليومي في الإصابات.
الذي يميز تركيا عن غيرها من البلدان هو حتما بنيتها الاقتصادية والصحية القوية في هذه الظروف الصعبة وجاهزيتها لتحمل الضغوطات المحتملة والتي ظهرت في خطط الدعم الواسع المقدم إلى المواطن والمؤسسات وقرارات إرجاء دفع الضرائب وحماية المصارف وزيادة الدعم للمتقاعدين والأسر المحتاجة وإطلاق حملات التضامن وخدمات الرعاية الصحية التي تعتبر الأفضلَ جودةً والأرخصَ في العالم. لكن الحقائق والمعطيات تقول أيضا إن الخيارات تتقلص بين قطع الطريق على تفشي الوباء المتزايد وبين تحمل ارتدادات المرحلة المقبلة اقتصاديا وإنمائيا ومعيشيا. استراتيجية المواجهة في الأيام المقبلة تتطلب المزيد من التضحية في أرقام الموازنة ودعم الأسر المحتاجة والتصرف بالاحتياطي النقدي كما يبدو.
بعد المرحلة الأولى من مواجهة الوباء التي انتهت في أواخر نيسان المنصرم وانطلاق المرحلة الثانية يبدو أن تركيا تستعد للاعلان عن المرحلة الثالثة هذه المرة نتيجة الأرقام المقلقة في ارتفاع عدد الإصابات.
خطط المواجهة لا بد أن تكون سريعة ومؤثرة أيضا حتى لا تنفلت الأمور كما يقول العديد من المختصين والخبراء
الحجر المنزلي مجددا فوق كل الأراضي التركية والتشدد في التنقلات بين المدن وتقليص ساعات العمل والعودة إلى إغلاق العديد من المراكز والمتاجر بين الخيارات التي قد يكون لها الأولوية.
خطط المواجهة لا بد أن تكون سريعة ومؤثرة أيضا حتى لا تنفلت الأمور كما يقول العديد من المختصين والخبراء. غالبيتهم تدعو إلى زيادة ساعات الحظر اليومي بدل الاكتفاء بساعات الحظر في نهاية الأسبوع. المعارضة تطالب بحظر كامل لمدة أسبوعين على الأقل في عموم البلاد لمواجهة مرحلة الذروة الثالثة في انتشار الوباء.
مشكلة المعارضة التركية هي تمسكها بتحويل ملف صحي إنساني حياتي من هذا النوع إلى أوراق ضغط سياسية تحاول التأثير من خلالها على الحكم والقيادة السياسية. لا بل هناك من يريد الاصطياد في المياه العكرة وتحميل وزير الصحة مسؤولية الارتفاع في عدد الاصابات وتسييس المسألة. البعض يحاول إبراز أرقام تراجع تركيا في الترتيب العالمي لمحاربة الفيروس وتضخيم الأمور على أنها أزمة صحية حياتية خرجت عن السيطرة بدلا من قبول المسألة على أنها أزمة وطنية عالمية ينبغي التعامل معها في إطار التضامن وبعيدا عن الشعبوية والمزايدات الحزبية.
المسألة لم تعد قضية إخفاء حقائق كما تقول المعارضة أو مراعاة الأمن القومي وتجنب إثارة الرأي العام كما تقول أصوات في الحكم، بل مطلب التحرك السريع باتجاه وضع استراتيجية صحية اجتماعية اقتصادية جديدة لمواجهة تفشي المرض. ارتفاع أرقام الوفيات وعدد الصابات اليومي يلزم السلطات باتخاذ تدابير مواجهة جديدة. الخيارات الصعبة لقطع الطريق على تزايد عدد الإصابات ومنع انتشار الوباء بانتظار ظهور اللقاحات هي الخطوة التي لا مفر منها الآن. نظام العمل اليومي في القطاعين العام والخاص، التنقل بين المدن والأماكن، استمرار غلق المؤسسات التعليمية والحياة الجامعية ستكون بين الخيارات الصعبة الواجب اتخاذها عند الضرورة أيضا.
المواجهة بين الفيروس الذي يواصل الانتشار وبين القيادات السياسية التي تريد الخروج من حياة العزل بأسرع ما يكون لمواجهة المخاطر الاقتصادية والاجتماعية المحدقة تميل لصالح الأرقام المقلقة في زيادة عدد الإصابات بشكل ملحوظ. وتركيا ما زالت مثل غيرها من الدول تعيش أجواء الاستنفار العام واتخاذ تدابيرحرب المواجهة البعيدة المدى مع الفيروس.
بانتظار الخطوات الجذرية المرتقبة والإعلان عن فسحة الأمل بانطلاق استخدام اللقاح تبقى نصائح عدم التخلي عن الحليف اليومي الكمامات وتكرار عدم مفارقة المغاسل والمحافظة على المسافة الاجتماعية في الطرقات والمحافل والمتاجر وتقليص ساعات الحضور في الأماكن المغلقة الممتلئة بالناس هي ما يمكن التذكير به حتى الآن.