أعلن البعض في إسرائيل أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "موساد" قد ينفذ عمليات استهداف لقيادات وكوادر فلسطينية تعيش في لبنان وقطر وتركيا. رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الفور بقوله حاولوا لتعرفوا النتيجة. لا نعرف بعد كيف ستتعامل تل أبيب مع رسالة أردوغان. لكننا نعرف أنها نفذت تهديدها في بيروت بعد اغتيال قيادات فلسطينية بارزة تعيش هناك.
ما عرفناه قبل أيام أيضا كان حالة الاستنفار المعلنة في صفوف الأجهزة الأمنية التركية في الأيام الأخيرة وتوسيع رقعة تحركها ضد عملاء إسرائيل في إسطنبول تحديدا.
الخطوة التركية الثانية كانت في إنجاز الأجهزة الأمنية والعدلية التحقيقات الأولية مع 34 موقوفا بتهمة التجسس لصالح المخابرات الإسرائيلية ونقلهم إلى المعاينة الطبية تمهيدا لإعلان الادعاء العام قراره بشأن الملف، وتقديمهم للمحكمة لاستكمال الإجراءات القانونية بحقهم.
"ما فائدة الكلام مع من يطرّش في أذنيه" كما يقول المثل التركي. هكذا هو واقع التحدث للقيادات الإسرائيلية وتحذيرها أو تهديدها أحيانا. يتحرك الموساد وعملاؤه كما يشاؤون في بعض الدول بعلم أو دون علم أجهزتها الأمنية. لا أحد يعترضهم لأن الاستخبارات الإسرائيلية تملك الحصانة وصلاحية القيام بما تريد وحسب ما تتطلبه مصالح إسرائيل وأمنها. لكن الأمر بالنسبة لجهاز الاستخبارات التركي يختلف تماما كما رأينا من خلال عمليات الرد السريع أو الاستباقي على الموساد خصوصا بعد التوتر الحاصل في العلاقات بين البلدين بسبب العدوان الأخير على غزة والشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
قاد جهاز مكافحة التجسس التركي قبل أيام العملية الخامسة من نوعها والتي تنفذها الأجهزة الأمنية تحت مسمى "الخلد" هذه المرة، بشكل واسع ومبرمج وعلى مراحل داخل البلاد وخارجها، ضد عملاء الموساد ومن يتعاون معهم من جنسيات مختلفة. تقول نتائج التحقيقات الأولية أن الموقوفين الذين اعترفوا بتجنيدهم من قبل الموساد للتجسس على الجاليات العربية والفلسطينية تحديدا في المدن التركية الكبرى، قدموا كثيرا من المعلومات والتفاصيل خلال اعترافاتهم حول طريقة الوصول إليهم وتجييشهم وتواصلهم مع مشغليهم داخل تركيا وخارجها خلال تأدية ما كلفوا به. التجنيد تم من خلال إعلانات عروض عمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم مكافآت مالية على كل معلومة تقدم وبحسب أهميتها.
إسرائيل لا تغامر بعملائها مباشرة فهناك وسطاء وأجراء يتكفلون بذلك مقابل الأجر المادي. اتصالات وحجوزات في فنادق فخمة وعروض مغرية وضمانات مادية مقابل الخدمات التي تقدم للموساد
يتم أحيانا وبشكل مسبق تحديد هوية الشخصية المستهدفة، وأحيانا أخرى يترك الخيار للعميل لالتقاط الصور والعثور على أرقام هواتف، وفك رموز استخدام الأنترنت وتحديد أماكن الإقامة والتنقل والاتصالات التي يجريها الشخص الذي يرى هو فيه أهمية وفرصة تستحق المكافأة. وكل ذلك يتم من خلال نشر إعلانات وظائف على مواقع التواصل الاجتماعي أو مجموعات الدردشة، ويقوم الموساد خلالها باختيار من يناسبه ويرى فيه الكفاءة لأداء ما يطلب منه. ويتم التواصل بعد الاتصال المباشر عبر منصات تطبيق واتساب وتلغرام وتأمين وصول أموال المتعاونين معهم من خلال وسيط لا علم له بما يفعله.
إسرائيل لا تغامر بعملائها مباشرة فهناك وسطاء وأجراء يتكفلون بذلك مقابل الأجر المادي. اتصالات وحجوزات في فنادق فخمة وعروض مغرية وضمانات مادية مقابل الخدمات التي تقدم للموساد. الهدف هو رفد بنك المعلومات الإسرائيلي ليتحرك في إطار بنك الأهداف الواجب التعامل معها عند اللزوم، وبينها التعقب والتهديد واستخدام القوة. اللافت هنا هو الإصرار الإسرائيلي على الربط بين الرد عبر استهداف قيادات حماس في بعض الدول العربية والإسلامية وبين استهداف القيادي الفلسطيني صالح العاروري في بيروت قبل أيام، ومن خلال ذلك محاولة تبرير نشاطات جهاز استخباراتها فوق الأراضي التركية رغم الحملات التي تشنها أنقرة ضد عملاء الموساد.
المسألة تختلف هذه المرة بالنسبة لأنقرة بدليل أن المصادر الأمنية تتحدث عن عملية مراقبة وتعقب مباشر بدأت قبل شهرين، لنحو 50 شخصا نشطوا في العديد من المدن التركية، وتم توقيف القسم الأكبر منهم بعد عمليات دهم في 57 منزلا ومكان إقامة. فاللافت هو توسيع رقعة الموساد لنشاطاته في المنطقة عبر تهريب الأشخاص والتجهيزات اللازمة في العمليات على خط سوريا والعراق وإيران باتجاه الأراضي التركية وتوفير منازل آمنة للعملاء هناك، تمهيدا للقيام بالعمليات المطلوبة. هل هناك تنسيق بين الموساد وبعض التنظيمات الناشطة على الحدود التركية مع البلدان الثلاث مثل مجموعات حزب العمال وقسد؟ هذا ما يبحث عنه جهاز الميت التركي ويريد توثيقه والتأكد منه كما يبدو.
خطط تحرك الاستخبارات التركية أبعد وأهم بكثير من أن تهدف لمطالبة الموساد بعدم استخدام الساحة التركية في عملياته
قد تكون التهديدات الإسرائيلية باستهداف حماس في بعض الدول، ومحاولة الترويج لأنباء مزيفة مثل مطالبة أنقرة لقيادات حماس بمغادرة الأراضي التركية، في طليعة أسباب تسريع عمليات جهاز الميت ضد عملاء الموساد في المدن التركية. لكن خطط تحرك الاستخبارات التركية أبعد وأهم بكثير من أن تهدف لمطالبة الموساد بعدم استخدام الساحة التركية في عملياته. الهدف قد يكون إفهام تل أبيب، أنها تقحم نفسها في حرب متعددة الجوانب مع أنقرة يواكبها السير في المجهول، وسيتم التعامل معها على هذا الأساس إذا ما قررت الدخول في مغامرات غير محسوبة وتنفيذ التهديدات التي يتحدث عنها البعض في إسرائيل.
تحذيرات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان حول أن اشتعال جبهة لبنان التي يريدها البعض في تل أبيب ستكون طويلة، رسالة لنتنياهو قبل غيره بضرورة "التركيز على لغة السلام وحل الدولتين"، بدلا من تحريك أحجار اللجوء لاستخدام القوة ومحاولة اعتماد خيار الحسم العسكري، كما رددت أنقرة أكثر من مرة.
الواضح هو أن المواجهة القائمة بين جهازي الاستخبارات التركي والإسرائيلي ستتسع رقعتها وتنتقل إلى ساحات إقليمية جديدة خصوصا على ضوء المعلومات والأنباء التي تتحدث عن تحريك تل أبيب لعناصرها في أكثر من مكان في المنطقة، وتحديدا على خط بيروت – دمشق – عمان - بغداد – طهران – قبرص "المضلع السداسي المنتظم" المعروف والمشهور في حالات مشابهة.