لم يسبق للعالم أن عاش هذا الكم من الهلع الجماعي قبل اليوم. ربما كانت بعض الأوبئة القديمة أشد فتكاً، لكن وسائل الإعلام لم تكن بهذا الانتشار، فاقتصر الهلع على مناطق بعينها. ليس فقط وسائل الإعلام، بل كذلك كانت مناطق العالم منعزلة بعضها عن بعض بالقياس إلى واقع ما نسميه اليوم بالعولمة، حيث لم تعد هناك ما يمكن تسميتها بمناطق نائية أو منعزلة. كل مكان بات قريباً، وكما تنتقل أخبار الأوبئة، كذلك تنتقل الأوبئة نفسها بسرعة من "أقصى" الصين إلى إيطاليا أو الولايات المتحدة.
مع ذلك يختلف وباء الكورونا (أو باسمه العلمي الدقيق كوفيد – 19) عن أوبئة قريبة تاريخياً وقعت في بيئة العولمة ذاتها، وسمع بها العالم من أقصاه إلى أقصاه، كالإيدز وأنفلونزا الطيور وإيبولا وسارس وغيرها، في سرعة الانتشار الرهيبة التي قوّضت الأنظمة الصحية في دول ما كنا نتوقع لها أن تفشل في مواجهة وباء، أبرزها الدول الأوروبية التي يجتمع فيها عاملا الثراء والتقدم العلمي – التكنولوجي.
قد يكون من المبكر التكهن بما سيكون عليه حال العالم بعد انقضاء هذه العاصفة الهوجاء، وإن كانت التدابير الوقائية المتخذة من حكومات معظم الدول تشي بمزيد من الانغلاق القومي والجهوي، ومزيد من النزوع السلطوي لدى الدول، والأخطر من ذلك: مزيد من القبول الاجتماعي لكلا النزوعين الانعزالي والسلطوي. فحين تكون الحياة نفسها معرضة للخطر، يتقبل الناس التضييق على حرياتهم الشخصية والجماعية، بل يستبطنون النزوع السلطوي في أنفسهم ويمارسون السلطوية بأنفسهم على أنفسهم والآخرين.
ولكن يمكن استعراض بعض الآراء المتداولة بشأن الوباء المخيف. حين كشفت السلطات الصينية، بعد تأخير، عن الإصابات في مدينة ووهان، شاعت آراء تفسر الأمر بخصوصية الطعام الصيني، وبرزت نزعة عنصرية ضد الصينيين والعرق الأصفر بصورة أوسع. ثم انتقل الفايروس إلى بلدان أخرى كإيران الإسلامية، فتراجع "التفسير" المذكور، ثم كانت هناك آراء وتفسيرات "إسلامية" تشبّه الوباء الجديد بضروب العقاب الإلهي للبشرية الخطّاءة، كالطوفانات والزلازل وغيرها من قصص مذكورة في الكتب المقدسة.
وهناك دائماً تفسير تآمري متربص، يطل برأسه لتفسير كل شيء وكل بلاء
وهناك دائماً تفسير تآمري متربص، يطل برأسه لتفسير كل شيء وكل بلاء: إنها الامبريالية الأميركية، أو شركات الأدوية العملاقة، أو مختبرات إنتاج الأسلحة البيولوجية. من المحتمل أن التيارات العنصرية المعادية للأجانب في الغرب لديها أفكار مشابهة: ربما كان اللاجئون وراء نقل العدوى بدايةً، أو المنظمات الإرهابية الإسلامية التي ليس هناك ما يمنع من الافتراض أنها قادرة على تطوير مختلف أنواع السلاح الفتاك.
مشكلة التفسير التآمري أنه لا يمكن دحضه بنفس مقدار استحالة إثباته. هو كالإيمان الديني، يؤمن به وحسب ولا يحتاج إلى أي تفكير منطقي أو مناقشة عقلانية. يقول لك: الأميركيون ابتكروا الفايروس لضرب اقتصاد الصين الذي يهدد بالتفوق على الاقتصاد الأميركي، أو أنهم ابتكروه واللقاح جاهز لديهم، قريباً يصبح في التداول مقابل أرباح بمليارات الدولارات. فتقف عاجزاً أمام صلابة إيمانه بما يقول.
ولكن أليس هذا الموقف مألوفاً لدينا؟ ألا ينسب كثير من الناس جميع الشرور لجهات يعتقد أنها تمثل مصدر الشر المطلق والوحيد؟ فبالنسبة لقسم كبير من الرأي العام في الغرب، الإسلاميون بل الإسلام هما مصدر الشر المطلق، وبالنسبة لإسلاميين وماركسيين وقوميين، الامبريالية الأميركية هي مصدر جميع الشرور في العالم. وبالنسبة لنظام بشار وقاعدته الاجتماعية، العالم كله مصدر الشرور، باستثناء إيران وروسيا، وفي تركيا جماعة فتح الله غولن هي الفايروس الأكثر فتكاً، وكلما انتقد شخص أو حزب أو صحيفة سياسات الحكومة، تم اتهامه بالعلاقة مع جماعة غولن، حتى لو كانت له مؤلفات في نقد الجماعة المذكورة حين كانت متحالفة مع الحزب الحاكم.
ثمة آراء أخرى جديرة بالإشارة إليها. هناك من علقوا على نجاح الصين في تطويق الجائحة، بعد الصدمة الأولى، مقابل فشل إيطاليا ودول أوروبية أخرى، بالقول إن النظام الاشتراكي، برغم كل علاته، أثبت أنه أقدر على مواجهة الأزمات الحادة، وأنه أكثر أخلاقية من النظام الرأسمالي. كأن أصحاب هذا الرأي كانوا ينتظرون الأزمة الراهنة ليثبتوا ما كان ثابتاً لديهم على الدوام. وعلى أي حال، صحيح ما يقوله هذا النوع من الآراء، بمعنى محدد: إن قدرة نظام شمولي يحصي الأنفاس على عبيده، لهي قدرة فائقة فعلاً في اتخاذ تدابير وقائية في مواجهة أي أزمة، بما في ذلك حبس الناس في بيوتهم. بالمقابل طبيعي أن يكون المجتمع المنفتح في الدول الليبرالية أقل مناعة أمام المخاطر. يمكن المراهنة على أنه إذا كان مقدراً أن تنجو دولة وحيدة في العالم من جائحة كورونا، فهي كوريا الشمالية بلا شك!
القصد أن إطلاق الاتهامات بشأن المسؤولية عن ظهور فايروس كورونا أو الأوبئة السابقة، بغير أدلة، هو من مسالكنا المألوفة. لا يغير من الأمر شيئاً لو ظهرت، في مقبل الأيام والسنوات، أدلة حقيقية على تصنيع جهات معينة لأسلحة جرثومية أو فايروسية، فهذا الإثبات لا يعني أن مطلقي الاتهامات كانوا يفكرون بطريقة منطقية سوية. ذلك أننا حين نتحرر من أي قيود في التكهن بما نشاء واتهام أي كان بأي شيء، نصبح في حالة من الفوضى الأخلاقية المدمرة.