منذ دخول الثوار إلى مدينة حلب في تموز عام 2012 انقسمَت المدينة إلى منطقتي سيطرة؛ امتدَّت الأولى على طول الأحياء الشرقية فيها مع أجزاء من أحيائها الشمالية تحت سيطرة الجيش الحر، والتي كانت موصولة مع الريف الحلبي المحرر شرقاً عبر طريق (حلب – الباب)، قبل أن يصبح لها طريق إمداد آخر من الشمال عبر حي الشيخ مقصود بعد تحريره في آذار من عام 2013، بينما بقيت الأحياء في قسم المدينة الغربي تحت سيطرة نظام الأسد، والتي بات يضيق عليها الخناق تدريجياً مع توسُّع رقعة المناطق المحررة في الشمال السوري أواخر عام 2012، حتى اقتصر طريق الإمداد العسكري بالنسبة لمجموعات جيش النظام فيها على الطريق القادم من مطار حلب جنوبي شرق المدينة، متحركاً من الشرق إلى الغرب جنوبي الأحياء المحررة في القسم الشرقي من المدينة، باتجاه قسمها الغربي "المُحتَل"، ناقِلاً الإمدادات العسكرية القادمة من محافظة حماة جنوبي حلب إلى المدينة.
حيث كانت الإمدادات تأتي عبر طريق خناصر إلى مطار حلب، وهو الطريق الذي باتت أعين الثوار تتّجه إليه تدريجيّاً منذ أواخر عام 2012، بعد عدد من العمليات في ريف حلب الجنوبي، تمكن الثوار فيها من تحرير عدد من المدن والبلدات الاستراتيجية، كان أهمها تحرير مدينة السفيرة في كانون الأول عام 2012، والتي تعتبر بوابة حلب الجنوبية.
مع دخول عام 2013 كانت مدينة حلب تشهد معارك تحرير حي الشيخ سعيد الاستراتيجي جنوب القسم الشرقي "المُحرّر" من المدينة، والتي أطلقها الثوار إبّان تأسيس (تجمع فاستقم كما أمرت) أواخر عام 2012، وذلك بُغيَة فتح طريق إمداد جديد للقسم المحرر من المدينة، والأهم من ذلك قطع طريق إمداد نظام الأسد إلى الأحياء الخاضعة لسيطرته، حيث تمكنوا في فبراير \ شباط من عام 2013 من إحكام سيطرتهم على الحي بعد حرب شوارع شرسة.
اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "صعود أبناء مدينة حلب على خارطة فصائلها 2013" (يتم وضع النص بلون مختلف عن لون الخط في المادة)
وما إنْ أنهى الثوار تحرير الحيّ حتى بدؤوا المرحلة الثانية للمعركة جنوباً، باتجاه الطريق الواصل بين مطار حلب والأحياء الغربية من المدينة، واضعين نصب أعينهم تحرير جسر عسان الاستراتيجي، والذي من شأنه فتح طريق إمداد آخر إلى الأحياء المحررة من المدينة يربطها مع ريف حلب الجنوبي.
كتيبة أبو أيوب الأنصاري
في تلك الفترة كانت "شلّتنا" تعيش في منزل مُستَأجر في حي السكري الحلبي، حيث كنّا نعمل غالباً في المجال الإعلامي، سواءً عبر مرافقة الصحفيّين الأجانب الذين باتوا يَؤمّون المدينة بشكل متزايد منذ أواخر عام 2012، أو من خلال تصوير بعض التقارير الإعلامية، أو حتى عبر عملنا ضمن "شبكة حلب نيوز" الإعلامية، والتي كنتُ و"أبو عروة" (أحد أبناء ريف حماة من طلاب كلية العمارة في جامعة حلب) ضمن أعضاء إدارتها، فكنا نقضي يومنا غالباً مُتنَقِّلين في جولات متنوّعة شغلَت جبهات المدينة حيّزاً واسعاً منها، وهو ما ساهم في بناء شبكة علاقات واسعة مع عدد كبير من ثوار حلب، فضلاً عن إتاحته الفرصة لنا للقاء بعض أصدقائنا الذين انقطعَت أخبارهم عنّا منذ حين..
ولم يكن شيء ليوازي فرحتنا بلقاء "ملهم عكيدي أبو صالح" في بدايات عام 2013 أثناء إحدى تلك الجولات، وأبو صالح أحد أبناء مدينة حلب الذي ترجع أصول عائلته إلى ريف حلب الجنوبي في قرية زيتان، وطالب الهندسة المعمارية في جامعة حلب، الذي آثر ترك كليته في عامه الدراسي الرابع على خطى أخيه الكبير "أيهم"، حاملاً السلاح ضمن صفوف الجيش السوري الحر، ومشاركاً في عدد من معارك التحرير في الشمال السوري قبل دخول المدينة، ثم مشاركاً في معركة تحرير حلب منذ البداية ضمن صفوف (كتيبة أبو أيوب الأنصاري)، التي أسّسها وقادها أيهم حتى استشهد بعد أسبوعين تقريباً على انطلاقة معركة تحرير المدينة وذلك في شارع 15 في حي صلاح الدين، ليتسلّم قيادة الكتيبة بعده أخوه ملهم.
اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب: سقط الليث شهيداً.. شارع 15 في حلب
كانت (كتيبة أبو أيوب) التابعة لتجمع فاستقم تتميّز بضمِّها عدداً جيداً من الطلبة الجامعيين في صفوفها مقاتِلين، كان بعضهم زملاء دراسة من كلية الهندسة المعمارية في حلب كمالك العيسى وملهم إدريس، إضافة إلى وجود عدد من الضباط والعسكريين المُنشقِّين، الذي تولّى أحدهم وهو "مالك أبو محمد" (أحد أبناء ريف إدلب من خريجي كلية الحقوق والملازم أول المنشق عن جيش النظام) قيادة الكتيبة عسكرياً، وهذا ربما ما سمح للكتيبة أنْ تحجز مكانة مميّزة على الخريطة العسكرية لمجموعات وكتائب الجيش الحر في المدينة.
حاجز جسر عسان
أواسط شهر آذار من عام 2013 وبعد تحرير حي الشيخ سعيد، تحرّك الثوار باتجاه الطريق الواصل بين مطار حلب والأحياء الغربية، مستهدفين تحرير حاجز جسر عسان، والذي كان جيش النظام قد أقامه في بعض المباني الحصينة على التقاطع بين طريق المطار والطريق المتجه إلى "قرية عسّان" جنوبي المدينة، وهي المعركة التي رافَقْنا -أنا وأبو عروة- فيها الثوار من كتيبة أبو أيوب كإعلاميين.
تجمّعَت الكتائب قبيل الاقتحام في "محال" لم يُنجَز بناؤها بشكل كلّي ليس بعيداً عن الحاجز، وهناك شاهدتُ للمرة الأولى "أبو صالح" قائداً، بعد أن عرفتُه لأعوام خلَت زميل دراسة وصديقاً شهماً.
وقف "ملهم" يخطب بالمجموعات قبل الاقتحام مُذكِّراً إيّاهم الآخرةَ وتجديد النّوايا، شادّاً من أزرِهم بكلماته التي وجدَت سبيلها إلى قلوبنا جميعاً كما أزعم، ثم وما إنْ فرغ من خطبته حتى بدأَت المجموعات تتّجه تباعاً إلى محاور العمل، حيث قُسِّمَ محورنا إلى منطقة إسناد تُؤَمِّن التغطية النارية، ومنطقة اقتحام عبر البستان الممتدّ بين الجدار الذي تمركز خلفه الإسناد وبين المبنى الذي يهدف الثوار لتحريره.
اتخذْتُ وأبو عروة أماكننا مع محور الإسناد الذي رافقْنا فيه بعض شباب الكتيبة بقيادة "ملهم"، فيما تحرّك آخرون بقيادة "أبو محمد" باتجاه البستان تَسَلُّلاً، وصدحَت "القبضة" مُعلنةً بدء العمل..
كان ملهم يتنقّل بين "القبضة" للتواصل مع غرفة عمليات المعركة وبين رشاش "دوشكا" نُصِبَ على حامل ثلاثيّ كان محسوباً على السلاح الثقيل في المعركة لضعف الإمكانيات! بينما تموضَع "مالك العيسى" الذي قرّر منذ فترة التخصُّص كقناص خلف جدار قريب بوضعيّة غير مريحة تماماً أمضى فيها جلّ المعركة.
وعلى مدار الساعات السبع التالية حاول الثوار ببسالة اقتحام البناء دون أن ينجحوا بذلك، خاصة مع تحرّك دبابة للنظام كان يمنع حاجز الطريق قذائف "آر بي جي" التي أطلقوها من الوصول إليها، إضافة إلى كثافة الغارات الجوية التي شنّها طيران النظام على محاور العمل، والتي كانت تتزايد غزارتها كلما اقتربت الشمس من المغيب، ليقنَع الثوار من يومهم بما أنجزوا، وتُعطي غرفة العمليات أوامرها بالانسحاب العاجل الذي اضطُرِرْنا فيه لمساعدة الثوار بحمل العتاد، فكانت حصّتي منه رشاش "الدوشكا" الذي لم أنتبه لحرارة سبطانته فحملتُه منها مُحرِقاً يدِي، في أوّل ذكرى لي مع السّلاح في الثورة.
أتمَمْنا انسحابنا من محورنا، ليعاود الثوار الكرّة في اليوم التالي ويفتح الله عليهم الحاجز، ويُعلَن رسميّاً عن قطع طريق إمداد النظام إلى المدينة.
لاحقاً تمكّن النظام من إعادة احتلال الحاجِز، بل وقطع طرق إمداد الثوار إلى المدينة مُقتَرِباً من حصارها عام 2014، ليصبح لثوار حلب طريقٌ ترابيُّ وحيد يعبرونه إلى حلب المُحَرَّرَة تحت رحمة مدفعية "فوزديكا" نصَبَها جيش النظام على تلّة الشيخ يوسف على مشارف المدينة..
لكنّ تلك قصّة أخرى..