احتفاء بإنجاز قطر التي عبرت عن هوياتنا -عربية كانت أم مشرقية- ودفاعا عنها رغم عدم احتياجها لذلك، أبدأ بهذه الجملة طالما أن معظم من رد على التغول الكبير والتقليد الأعمى للموجة العمياء ضد مونديال استضافه العرب، قد ردوا بجملة "ليس دفاعا عن قطر" وكأنها داعش، أو أحد التنظيمات الإرهابية التي زرعها الغرب في خاصرة بلداننا ليهدمها على رؤوس أهلها بحجة محاربة الإرهاب، ثم يخضع عالمنا لحربين؛ إرهاب صنيع، وإرهاب من قبل صانعيه، وكنا نحن العشب الذي تصارعت فوقه الثيران.
إبان مونديال قطر نجد أن الرؤية المركزية الأوروبية التي ظهرت عبر الإعلام ليست عارضة أو عابرة، مثلما أن الاستعمار والرؤية الكولونيالية ليست مرحلة تاريخية بقدر ما هي ذهنية قارّة في الوعي الغربي الذي يرى نفسه أبا للعالم، وربّاً يطرح القيم التي يريد تحت عنوان الحضارة والحداثة التي بشر بهما العالم المقهور بالحديد والنار من الهند حتى مصاب نهر المسيسبي، وأخذ هذا الغرب على عاتقه اختراع الشعارات وتصنيم الرموز ، وشطح في جملة الحقوق التي أطلقها وصار لزاما على كل العالم الترقب لما يطلقه هذا الغرب لتبنيه بعماء وجهل وخضوع، وأبدع في تحويل أي رؤية أو فكرة إلى أيقونة على الجميع التلبس بها كهِبةٍ من الرجل الأبيض – المخلص- الذي اختارته آلهة القوة العسكرية العابرة للبحار ورأس المال المنهوب من مناجم أفريقيا وذهب الشرق.
ولعل من حق هذا المخلص الحاكم على كل من يخالفه باللاإنسانية والتخلف؛ أن يغير ملائكيته المدعاة إذا حصل على عقد من شركة نفطية أو امتياز هنا أو هناك، أن ينسف كل ما يدعيه من قيم تحت شعار حماية مصالح المواطن الغربي.
طرحت قطر تصورا لثقافات عالمية وقيم إنسانية ودين؛ ولم تحكم على المختلف بالكفر بالإنسانية ولا باعتباره هامشا تابعا
قد نتفق أو نختلف مع ما أنجزته قطر لكن الحديث ليس هنا عن قطر الدولة أو نظام الحكم بل عن الهوية التي حاولت قطر التعبير عنها وهي الهوية والثقافة غير الغربية عربية كانت، أم إسلامية، أو مشرقية بكل تنوعاتها، كند يكسر ذهنية الاحتكار الحصري الغربي في ابتداع تلك الرموز والأيقونات وجعلها أصناما، بل وطرحت قطر تصورا لثقافات عالمية وقيم إنسانية ودين؛ ولم تحكم على المختلف بالكفر بالإنسانية ولا باعتباره هامشا تابعا؛ خلافا للتصور الغربي الذي لم ير الشرق إلا كجزء من سوق كومبرادورية حرص عليها لإحكام سيطرته عليها كأسواق تصريف وعمالة رخيصة وتحقيق الربح والسطوة وتكريس التبعية.
لم ينظر الغرب إلى ثقافة أخرى في العالم المترامي الأطراف، فما المانع أن تقوم دولة ما كقطر بالتعبير عن تلك الثقافة؟ وهل على الجميع أن يعلن بيعته للغول الأوروبي وتبعيته العمياء؟ ألا نجد ذلك واجبا في التعبير عن العالم ككل متعدد الثقافات والأديان والقيم والأخلاق؟ وهل يمكن قياس جملة الحقوق الأساسية من حق الحياة والحرية والاعتقاد بحق شرب الخمر في الأماكن العامة أو ممارسات الناس الخاصة في غرف نومهم والمثلية الجنسية؟ وهل كان حق مسلمي الروهينغيا في الحياة أدنى من حقوق الشواذ لتطرد ألمانيا اللاعب مسعود أوزيل لأنه تضامن معهم؟
لم يفتنا حديث صحفي فرنسي في إحدى الفضائيات وهو يعبر على الهواء عن تذمره من كثرة المساجد وكأنها أكثر من تلك الكنائس التي باتت تعرض للبيع لقلة روادها، وكأنه يريد نقل عقدة فرنسا من الإسلام إلى بلاد الإسلام ويفرضها كرجل غربي متحضر أوقد للعالم شعلة الحرية وناقض شعاره وقيمه المدعاة في بلاده.
بعد موقف اللاعب مسعود أوزيل البسيط والحافل بدلالات كبيرة عبر ردود الفعل عليه، وبعد موقف زين الدين زيدان في الرد على من سبه في عرضه، وموقف أبو تريكة ورفضه الاشتراك بمباراة تدعم حقوق المثليين وافتضاح تعامل الغرب في النظر لهم كناشزين وخارجين على الذهنية الأوروبية وقيمها المتحولة يجب نبذهم وعزلهم وتجريمهم، وباعتبار الأنظمة العربية لم تكن لترد على شيء من ذلك لوقوعه خارج نطاقات السياسة، بقيت تلك الأفعال المشرفة لأولئك اللاعبين في دعم فلسطين أو مسلمي الروهينغا، أو دفاعا عن الإسلام أو الشرق وقيمه في أبسط أشكالها بقيت معزولة وفردية؛ حتى جاءت الفرصة لبلد عربي مسلم ومشرقي ليعبر عن شعوب وثقافات وأديان مغايرة لها ثقلها وأفكارها وقيمها، وأن العالم ليس بالضرورة أن يكون نسخة موحدة ومكررة وتابعة لمركزية الغرب وشموليته، وقد عبرت الافتتاحية فنيا عن ذلك برمزية عبر لقاء بين شخصين عربي تجاوز ضعف إعاقة جسده البيولوجية عبر ثقافة وفكر وروح واثبة تتسع العالم وتفهمه وتطلق دعوة التنوع والتعدد، والآخر الذي تجاوز الإيدولوجيا وعقدة الغرب لتبدو الحضارة لوحة يرسمها الجميع، ولتقول أن المنجز المادي ليس بالضرورة أن يكون تميزا معياريا يعطي الحق للمنجِز أن يتحيز مكانته دون غيره وأن يحتكر الحقوق والآراء والقيم كيفما شاء أو شطح.
أما مثقفونا الانبطاحيون الذين ما فتئوا يقولون في الغرب أن على المهاجرين في الغرب أن يحترموا أفكاره ويتبنوها، نراهم قد صمتوا عندما بدأت الألعاب في قطر كبلد عربي ومشرقي ومسلم؛ فما الذي يحرم هذه الدولة المنظمة حقها في أن تطرح قيمها وقوانينها ودينها؟ وقد فعلت ذلك بصورة حضارية تقول فيها للعالم إن هناك أبعادا حضارية وثقافية وقيمية لم تصلكم وتكسر صورة نمطية شكلها الغرب حسب مشيئته.
يرى د. حسن حنفي في نقده للتنوير الأوروبي أن الوعي الأوروبي عجز أن يواكب قيم التنوير ذاتها وعن تمثل قيمها وأن فلسفة التنوير سارت في جانب في حين سار المجتمع والوعي الغربي في جانب آخر لم يتسق وتلك الفلسفة "فسقط في هاوية اللامعقول" وتحولت الحرية من "هادفة إلى عابثة معبرة عن أزمة الوجدان لا غائيته"، وتحول هذا الوعي من مفهوم "الإنسان الشامل العاقل والحر إلى تصور أو "مفهوم عنصري يتمركز حول الإنسان الأوروبي الغربي المسيحي".
إن الليبرالية نفسها بعد استقرارها في دول الغرب وقعت في مطب عدم تسوير نفسها، أو ضبط حدودها بقيم معينة وأخلاق واضحة وانغمارها في الحداثة السائلة، والقيم السائلة، والمفاهيم والحدود السائلة، والثقافة السائلة؛ ولم يتوان الغرب عن اعتبار ثقافته وقيمه المتحولة في كل شيء– اللهم إلا في نظرته الثابتة لذاته-مركزا وشكلا وحيدا للحياة والحضارة وحق الهيمنة؛ رغم كون الثقافة أكثر المفاهيم تضمنا لمفاهيم الاختلاف والتنوع وصونا لأنماط وأشكال تفاعل الجماعات البشرية، ولم تخرج عن فضائها الكولونيالي ورؤيتها بمركزية تاريخها وتطورها وسبقها للآخر- الشرق- الذي عليه أن يتبعها حتى نكاد نجزم بأن التصور الأوروبي لأن تكون دولة ما حديثة أو حداثية لا يتحقق دون أن تكون أوروبية في القيم والتقاليد والثقافة بل وتابعة أيضا.
البون بين غرب وشرق ليس منحصرا في الشرط الحداثي وإمكانه بل أيضا بوجود شرخ وهوة عميقة بين حضارتين لكل منهما قيمها وأخلاقها
وبعيدا عن أحاديث السياسة التي لا تنفك تفرض نفسها للتحكم في كل شيء من إمبراطوريات إعلام وشركات رأس المال المتوحش، يتضح أن البون بين غرب وشرق ليس منحصرا في الشرط الحداثي وإمكانه بل أيضا بوجود شرخ وهوة عميقة بين حضارتين لكل منهما قيمها وأخلاقها – بافتراض وجود قيم أوروبية حقيقية محددة- وتتضح أزمة أوروبا الأخلاقية والقيمية في تلاشي أو غياب تعريف محدد للقيم حيث يكشف جمال مفرح في كتابه "أزمة القيم" عجز الإنسان الأوروبي عن الإمساك بفهم محدد وواضح لمعنى القيم خصوصا بعد تكرس ثقافة النهايات ونهاية الالتزام الديني وخفوت جميع المرجعيات والغرق في المفاهيم السائلة والمعايير السائلة وغياب النظام الأخلاقي الصلب وانغمار المجتمع والفرد في متع الحياة الحسية. وتحول الحق الذي يحقه القانون إلى قيمة، بعيدا عن أي مرجعية وجدانية وغياب مفهوم الضمير الذي يرقب الفرد فيه نفسه في غياب القوانين وقواعدها الصارمة، مما يحيل إلى تصور أي ممارسة غريبة اليوم كالمثلية الجنسية أو حق الزوجة في هجر بيت الزوجية إلى رجل آخر ثم العودة إليه بلا حرج؛ يمكن أن يكون فاتحة حتى لسفاح المحارم التي تجاوزتها المجتمعات البدائية، ومما لاشك فيه أنا أمام حرب ثقافات وأخلاق وقيم وليست موازين القوة العسكرية ولا الاقتصادية قادرة على إزاحة قيم شعوب وثقافات لها حضارتها وتاريخها فليت قومي يعلمون.