أخيراً يتصالح المتشابهون من طغاة العرب، وتبدو إعادة صوغ صورهم الممزقة لمحو بؤسهم السياسي مستحيلاً، بعدما دمروا روح الشرق ببساطة من يغيّر الماء في إناء زهور: بيروت ماتت روحها ودمشق ابتلعها الخراب، القاهرة في يد العسكر وبغداد عاجزة عن تضميد الجراح. على صعيد موازٍ تسلّم المعطيات الحالية السوريين للبؤس المطلق، بعدما قام نظام الأسد بإعادة تدوير اليأس وتعميمه إثر ردّهم إلى مزرعة الطاعة، يتقلب مصيرهم العالق في حاضر عدمي مؤبَّد بين سندان القهر ومطرقة التبعية، ما يدفع نحو تقديرات أقلّ تفاؤلاً من حيث فرص التعافي الوطني.
في هذا الوقت تبدو التطورات الأخيرة مرضيةً بشدة للأسد بعد عودته للجامعة العربية واستقباله على أنه "فخامة الرئيس السوري" بعدما كان "مجرماً عصابياً وقاتلاً!"، ويبدو هذا الحدث شديد الرمزية انتصاراً شخصياً لطاغية دمشق، وصفعة مؤلمة لملايين اللاجئين والمعتقلين والشهداء، إذ وبينما تدّعي العديد من الدول العربية بأنّ تطبيع العلاقات مع الأسد سيسهل حلّ القضية السورية المستعصية، تبدو عودة الأخير النتيجة المنطقية لتسويات غير أخلاقية في أروقة السياسة المعتمة، أكدت أوهاماً ونفت أوهاماً أخرى، وهي فعلياً ليست ذات فائدة عظيمة تذكر، فماذا سيضيف "ديكتاتور فاشي عنيد" يعود بابتسامته الصفراء وقلبه الأسود إلى حظيرة البائسين سياسياً والمنكوبين أخلاقياً غير مزيد من التعقيد والإفلاس القيَمي؟!.
ثمة فريق آخر يجزم يقيناً أنّ خروج بشار الأسد من الجامعة العربية كان، ومنذ البداية، بروتوكولياً فقط، لهذا لم نرَه يتحمس كثيراً عندما أعلنت الجامعة عن عودته رسمياً
ثمة فريق يؤكد أنّ عودة الأسد إلى مكانه إلى جانب أقرانه من المستبدين العرب وإلى الكرسي المخصص له على مائدة التردي العربي مسألة طبيعية، لأنّ طرده كان نتيجة الصراع بين أصوليتين: الأصولية الوهابية وأصولية نظام الملالي، ومع المصالحة السعودية-الإيرانية اليوم ينتهي فصل شديد الضبابية من اللعبة. وثمة فريق آخر يجزم يقيناً أنّ خروج بشار الأسد من الجامعة العربية كان، ومنذ البداية، بروتوكولياً فقط، لهذا لم نرَه يتحمس كثيراً عندما أعلنت الجامعة عن عودته رسمياً، هي التي تنظر إلى المحرقة السورية على أنها أمر عادي وروتيني، لذا لا تضع حداً لهذه المأساة المفتوحة على الجحيم، وكأنها من طبيعة الأشياء في مملكة استفتاءات 99.9% حيث لا أحد في مواجهة الأسد غير اللا أحد.
لنكن واقعيين إذاً.. عائلة الأسد لن تتنازل عن السلطة مطلقاً، لا بمرحلة انتقالية ولا بانتخابات ديمقراطية، ولا حتى بتأثير البكائيات التي تتضمنها بيانات الأمم المتحدة وتقارير منظمات حقوق الإنسان. والحقيقة الخافية أعظم بحضور ملف الكبتاغون وتصاعد صناعته إلى حدّ دقّ أجراس الخطر، حيث قدمت الولايات المتحدة قانون الكبتاغون الأميركي والذي ربط هذه التجارة بالنظام السوري ووصفها بأنها تهديد أمني عالمي. في السياق كانت شحنة الكبتاغون الواصلة إلى اليونان منتصف ديسمبر/كانون الأول عام 2018 بداية النشاط العلني لنظام الأسد في تهريب سمومه إلى العالم، وفي صيف عام 2020، أحبطت الشرطة الإيطالية صفقة مخدرات ضخمة كانت في طريقها إلى الموانئ الأوروبية، بعدما تمكَّنت من ضبط ثلاث سفن قادمة من ميناء اللاذقية. منذ ذلك الوقت، فُتحت أعين العالم جيدا على كلّ شيء يأتي من سوريا براً أو بحراً. وتشير تقديرات الحكومة البريطانية أنّ 80% من إمدادات العالم من هذا المخدر تُنتَج في سوريا، وقالت إنّ "قيمته تعادل ثلاثة أضعاف التجارة المشتركة للكارتلات المكسيكية مجتمعة".
على إثر هذه الوقائع الكارثية دخل العرب في محادثات ودية ملتهبة من أجل إعادة زعيم الكبتاغون إلى "الحضن العربي الحنون"، لتغدو تجارة الكبتاغون ورقة مساومة قيّمة يسعى من خلالها الأسد لإنهاء وضعه المنبوذ وذات قيمة استراتيجية في مسرحية التطبيع الهزلية، بل يُعتقد أنها العامل الرئيسي الذي دفع السعودية إلى كسر حالة الجمود مع دمشق وهي، بطبيعة الحال، ألد أعداء نظام الأسد وأكبر أسواقه للمخدرات، أملاً منها أن يُخفض تهريب الكبتاغون للمملكة، إذ كثيراً ما اعترضت سلطاتها شحنات كبيرة من أقراص الكبتاغون المخبأة في صناديق برتقال بلاستيكي وفي عبوات رمان مجوفة، وتمّ حتى سحق الأقراص وتشكيلها لتبدو وكأنها أوعية فخارية!. في المقابل تؤكد حوادث موثقة جداً من قبيل أنّ نظام الأسد الذي مهد الطريق بخبث منقطع النظير للهجمات الجهادية في العراق ولبنان لتحقيق مطالبه، وإجبار الدول المتنافسة على التراجع عن دعم خصومه، أنّ مثل هذه التكتيكات ليست غريبة عليه على الإطلاق.
إنّ مصافحة الأسد بدلاً عن محاسبته لا تشكل خيانة لدماء ضحاياه فقط، بل إنها إشارة مباشرة لكلّ المستبدين حول العالم بأنهم قادرون على انتهاك جميع القواعد الدولية بدون مواجهة أيّة عواقب حقيقية
من الجليّ أنّ الوصول بالكبتاغون إلى صناعة تُقدّر بمليارات الدولارات يتطلب ديكتاتوراً يائساً ومستعداً لفعل أي شيء للصمود، ومن غير المحتمل أن يستبدل ببساطة تحالفه مع "شريكته" إيران مقابل التماهي مع سياسة تبويس "شوارب" القادة العرب. وعليه فإنّ أقوى أدوات نظام الأسد حالياً، ليست نفسه الطويل ومهاراته الزئبقية في استثمار الوقت حتى استنزاف العدو، كما عُرف عنه، ولا ورقة اللاجئين أو موقع سوريا الاستراتيجي، ولا حتى تحالفه مع روسيا وإيران، بل هو ذاك المخدر الذي يُذهب العقل ولم تستطع الأجهزة العربية والعالمية، بكامل عظمتها، وقف انتشاره. حيث أكدت صحيفة ذا تايمز البريطانية أنّ العديد من سكان الخليج العربي يتعالجون في لندن بسبب الإدمان على كبتاغون الأسد. بالتالي منحت حبةٌ بيضاء صغيرة الأسد نفوذاً قوياً فرض مشهداً جديداً في علاقته مع المحيط من زاوية "ماهية الملفات" التي قد تشكّل أساساً لـطيّ صفحة العشرية السورية السوداء، بينما يحقّ التساؤل هنا فيما إذا كان نظام الأسد نفسه كتلة متجانسة قادرة بقرار من رأس الهرم على وضع حدّ نهائي لتجارة وتصنيع الكبتاغون؟
إنّ مصافحة الأسد بدلاً عن محاسبته لا تشكل خيانة لدماء ضحاياه فقط، بل إنها إشارة مباشرة لكلّ المستبدين حول العالم بأنهم قادرون على انتهاك جميع القواعد الدولية من دون مواجهة أيّ عواقب حقيقية. على التوازي يصحّ القول: إذا كان الأمل مُنطلَق السوريين، فإنّ سوريا المأمولة لا يمكن أن تكون سوريا البعثية أو الأسدية أو حتى "الكبتاغونية"، إنما هي كيان سياسي يتعين إعادة هندسته مجدداً عبر التركيز على فكرة الجمهورية بمضمون مُعادٍ للتوريث أو السلالية. بمعنى تكوين ذاتيات جديدة، تخوض معارك تحرّر تزداد جذرية ولا تقبل التبعية لأحد.
وفي مثل شروطنا الحالية، وقد خسرنا معركة التغيُّر السياسي، يمكن أن نعمل على تغيير تفكيرنا وحساسيتنا وتخيّلنا، على نحو يُغالب مملكة الكبتاغون السلطانية بكفاءة أكبر. فلا شك ربيع الشعب السوري في مكان آخر، ومن الخطأ قراءة حكايته المأساوية في سياق الحفاوة بالانتصار الوهمي لنظامٍ مهزوم تاريخياً وأخلاقياً وسلوكياً، يعيش على حقن المقويات الوحشية من أسلحة الموت الشامل في ظل تلكؤ الدول التي تنافق بشعارات حقّ الإنسان في تقرير مصيره!، والتي قد توفر تقدماً مرحلياً مؤقتاً للأسد ولكنها لن توفر له الأزلية، وستكون، يوماً ما، هزيمة الطغاة المتحالفين مع زعيم الكبتاغون السوري هي مركز الحدث وأصل القضية!
لنتذكر.. رحل كثير من طغاة العرب والعالم وكلّ ما تبقى من ذكراهم صورةُ وجه عابس مستكين، وعينان غائرتان تخفيان نظرة هائمة منكسرة انطفأ نورها، وفم شبه فاغر من شدة الدهشة سيحمل معه كلماته الأخيرة إلى العدم، إلى العدم ولا شيء سواه.