تبدو فكرة مراجعة ذهنية الموالي السوري وآلية تفكيره مشروعة ومنطقيّة في ظل الصور والملفات الكارثية التي تظهر هذه الأيام على وسائل الإعلام بعد سقوط نظام الوريث الأسد. كيف قبل هؤلاء أن يوالوا من كان يرتكب كل هذا القمع اليومي في سوريا؟ كيف قدّموا كل مراسم الطاعة والولاء، وتمكّنوا من ابتلاع لقب موالي ومن ثم هضمه، وليس فقط ذلك، بل، وأيضاً، تبرير جرائم الطاغية الطائفية والوحشية والإرهابية؟
قد يدّعون أنهم لم يكونوا يعلمون، أو أنهم كانوا غافلين، وكل هذا باطل، فكل ذي لب في سوريا كان على دراية بما يجري في البلاد، كل شيء كان مكشوفاً وعلنياً، التعذيب والسجون وإرهاب الدولة، القمع والقهر والظلم، كان الشعب يتداول تفاصيلها جميعها يوماً بيوم، من دون قدرة أو جرأة على التحرك.
الموالي في زمن الوريث ليس إلا شاهد زور فقط، أسير خوفه المبرر. فليس كل شخص قادراً على قول كلمة لا، هي كلمة بسيطة ولكنها تختصر قوة الدنيا. كلمة لا، هي أن ترفض، وأن تجاهر بالرفض، حتى في زمن الموت مقابل الكلمة، أن تمتلك جرأة لفظ هذين الحرفين اللذين يمثلان كل شيء.
أسرى الخوف كانوا يختارون حياتهم واستقرارهم وقد أداروا الظهر لمصلحة البلاد والمصلحة العامة، لكنهم ليسوا مخطئين، أو آثمين، هم أشخاص عاديون، كانوا يفكرون ببيوتهم وعائلاتهم بكل ما تعنيه تلك الكلمة من أنانية ومركزية شخصية، من دون تفكير بالعمل العام، وهذا أمر اعتيادي موجود في كل بقاع الدنيا، فأن تهتم بنفسك من دون الآخرين هو أمر بشع، لكنه ليس جريمة، لكن أن تؤيد القاتل وتبرّر جرائمه رغبة في التسلق والارتقاء، فهنا تقع الإدانة، وهنا يمكن القول إنهم مجرمون، ويجب علينا التفريق.
كنت دائماً أقول: يحق لأيٍّ كان أن يرفض الثورة، وأن لا يسير في ركابها، ولكن لا يمكن على الإطلاق أن يقبل أي كان بذلك النظام، حتى لو كانت رغبته تلك أنانية بحتة، أو حتى لو كان أسير خوفه ورهابه من ذلك القاتل.
قد يبرر هذا كم الالتفاف والتراجع عن المواقف التي اصطنعها عاشقو الدكتاتورية من الفنانين والسياسيين، متذرعين بالخوف، أو القمع، لكنهم، وبكل تأكيد، يدركون أنهم غير قادرين على قول لا، حتى لخصومهم السياسيين أو الفكريين، هذه الكلمة غير واردة في قواميس من ترعرع على التأييد والتبريك والتراقص أمام الكاميرات. سيدجّنون أنفسهم، وسيقمعون قناعاتهم، وسيجدون مبرّرات لا حصر لها، ويستندون على ذرائع فلسفية ودينية واجتماعية ومالية كي يبرّروا قولهم نعم، حين تبدو تلك الكلمة بالنسبة إليهم مفتاح الاستقرار والراحة من دون ألم الرأس والخوض في صراعات مرعبة.
يقول أمل دنقل شاعر الرفض العربي:
"المجد للشيطان معبود الرياح
مَن قال "لا" في وَجْه مَن قال "نعمْ"
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
وقال "لا" فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ".
فالشيطان في السردية الدينية قد قال لا، ورفض الانصياع للذات الإلهية التي أمرته، فألقي في جحيم لا قرار له. وقد حاولت الأنظمة القمعية شيطنة الرفض، وربطه بمشاريع خيانة وعمالة وتدمير، جنباً إلى جنب مع عملها الحثيث على تأليه الحاكم وتكريس عصمته، لكن تلك الأنظمة نسيت أن محو الرفض أو المعارضة يعني طغيان الاستبداد، وتعميم النفاق والتطبيل والكذب. إن من يقول لا، والسيوف فوق رقبته، هو إنسان يمتلك شجاعة كبرى، ووطنية لا تصدق في تفضيل الشأن العام على الخاص، وفي حب البلاد والتمسك بالأخلاق والمبادئ التي كبر عليها، رغم أن قول نعم والقبول بالواقع سهل، وهي كلمة فقط، كلمة قد تصنع أمجاداً وقد تخرّب مدناً.
في مجاهل الأمن السوري هناك يدركون هذا جداً، وهم لا يريدون سوى تأييد، توقيع صغير على تعهد بالقبول والمديح، من أجل هذا سيّروا المَسيرات في شوراع المدن السورية، بالملايين إرضاء للطاغية الأكبر، ملايين تهتف نعم، تكتب، ترقص نعماً مفضوحةً، رغم أنهم جميعهم كاذبون، لكن الطاغية يرضى بالظاهر، كان قنوعاً، قبولاً، متسامحاً، يقبل بكلمة نعم، ولا يغضبه في العالم شيء مقدار تلك الكلمة اللعينة المكونة من حرفين: لا.
في ثلاثينيات القرن الماضي، كتب الألماني برتولت بريخت، مسرحيتيه القصيرتين: "من قال نعم" و"من قال لا" اللتين ناقش فيهما فكرة الرفض والقبول وتداعياتهما الأخلاقية.
فبقدر ما يبدو القبول مسانداً للسيرورة العامة والتأييد على المضي قدماً حتى ولو كان الطريق خاطئاً، تبدو عملية الرفض تقويماً وتصويباً لا بد منه، بل حقناً لدماء وتضحيات محتملة في المستقبل.
إن الرفض أو عدم قبول الطريق الخاطئ هو ما نفتقده، تصحيح الأخطاء، إبداء الرأي، الاختلاف الذي يُنتج على الدوام رأياً أقوى وأصلب. وليس كل من قال لا، سيتمسك برفضه، وليس كل من قال نعم وقلبها لاءاً سيكون من العادلين، ولكن المجد سيكرس لكل حقيقي صادق قالها، ودفع ثمنها حياته وهناءة عياله، طوبى لكل من قال لا لكل ظلم وقهر من دون أن يقبض ثمنها.