بعد هجرتهم الأولى، بثورتهم، منذ ثلاثة عشر عاماً، بحثاً عن وطنٍ يستحقُّ شعبَهُ، يبقى السوريون في أرجاء الأرض الأربعة يحملون همَّ قضيتهم، وهم يبحثون في مهاجرهم المختلفة عن أنجع الطرق وأفضلها لخدمتها.
وإذ تُشكل الجالية في أميركا قطاعاً مؤثراً من (الدياسبورا) السورية، يبقى السؤال الأكبر لها متمثلاً في البحث عمن يقف بشكلٍ أقوى مع الثورة والثوار، وتحديداً بين حزبي الأغلبية الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري.
خاب أمل هؤلاء كثيراً في الحزب الديمقراطي منذ الأيام المبكرة للثورة، مع نقض الرئيس الأميركي الديمقراطي السابق، باراك أوباما، لعهوده المتعلقة بخطوطه الحمراء الموهومة.
وتضافر هذا مع انسجامٍ تاريخي وثقافي واقتصاديٍ أكبر مع الحزب الجمهوري، خاصةً فيما يتعلق بغلبة العقلية المحافظة على الطرفين من جهة استنكار مسائل مثل الإجهاض والمثلية ومجمل القضايا الجندرية من ناحية، وتقاربهما من ناحية أخرى في سياسات الضرائب والأجور وسياسات التنظيم الحكومية المبالغ فيها لهندسة حياة الناس. وهذا من مدخل كون العرب، والسوريين خصوصاً، ينتمون إلى الطبقة المتوسطة العليا في المجتمع، والتي لا ترغب في مثل تلك السياسات.
ارتفع منسوب الأمل مع صدور بعض القوانين الإيجابية للثورة السورية من قبل الكونغرس الأميركي خلال رئاسة الجمهوري دونالد ترامب، رغم القفز على حقيقة أن تلك القوانين صدرت غالباً في ظل سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس، وأنها في جميع الأحوال صدرت بإجماع أعضائه من الحزبين.
لكن غضب السوريين على الحزب الديمقراطي تصاعد مع أمثلةٍ صارخة بلغت ذروتها مع تصويت تولسي غابارد ضد قرار مجلس النواب المناهض للأسد، والذي وصفته حينذاك بأنه "مشروع قانونٍ للحرب.. وأنه محاولة مستترة لاستخدام منطق 'الإنسانية' كمبرر للإطاحة بحكومة الأسد السورية".
كانت غابارد سياسية ديمقراطية ونائبة في مجلس النواب من ولاية هاواي، وكانت تقدم نفسها كعضوٍ تقدمي في الحزب الديمقراطي.
وزاد من غضب السوريين أن غابارد قامت بزيارة لسوريا عام 2017، وأنها خلال زيارتها التقت بالأسد شخصياً، وأجرت مقابلات مع مدنيين سوريين ومع قوات النظام، ثم مع "المعارضة" المعتمدة من النظام، والتي أجمعوا على أن الأسد هو خيارٌ أفضل لسوريا من "الإرهابيين". ثم قامت بجولة في حلب بعد أن دمرها الأسد وروسيا، وأعلنت أن ما حُصل كان انتصاراً للسلام.
يتحدث مراقبون عن إمكانية تأثيرها البالغ في سياسات الرئيس ترامب تجاه الثورة السورية وبشار الأسد، خاصةً مع تقاطع موقفهما في عدة قضايا، يتمثل أهمها في موقفها الإيجابي جداً من الرئيس الروسي بوتين، وهو نفس موقف دونالد ترامب.
بعد ذلك، رشحت نفسها للرئاسة الأميركية عام 2020 على أساس أنها تنتمي إلى الحزب الديمقراطي، وكانت تُلقي في إعلانات حملتها الانتخابية باللوم على الولايات المتحدة فيما يتعلق بالموت والدمار في سوريا، وأن الضربات الجوية الروسية على المدنيين تستحق الثناء، وأن الجهود المبذولة لحماية المدنيين السوريين خاطئة، وأن الولايات المتحدة يجب أن تقف إلى جانب الأسد. كل هذا بينما كانت تعرض مقاطع فيديو لنظام الأسد وهو يسقط البراميل المتفجرة على مدينة داريا.
لكن غابارد كانت، ولا تزال، شخصية انتهازية من الطراز الأول. وقد كانت ولا تزال تدور مع مصلحتها وطموحاتها الشخصية. إذ لم ينتبه كثيرٌ من السوريين، مثلاً، لأمرٍ أثار الدهشة في واشنطن آنذاك، عندما التقت بترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، مباشرةً بعد فوزه بالرئاسة، لتبادله وجهة نظرها بأن الولايات المتحدة يجب أن تتوقف عن تسليح ومساعدة "المتمردين في سوريا"، وهي السياسة التي أعرب المرشح ترامب عن دعمها لها. ثم قامت بزيارتها النّكِدة إلى سوريا بعد ذلك اللقاء!
والمفارقة أن أكثر من انتقد تلك الزيارة في تلك الأيام واشتبك مع غابارد كانت عضو مجلس الشيوخ الديمقراطية، كامالا هاريس، التي باتت اليوم مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة. وقالت هاريس حينذاك إن غابارد "قادمة من زيارة فرد قتل شعب بلاده [مثل] الصراصير... ورغم ذلك، احتضنته واعتذرت عنه ورفضت وصفه بمجرم حرب".
تستحق القصة أن تُروى، ليس فقط بسبب مفارقة كون هاريس طرفاً فيها، وإنما بسبب تطورات أخرى أكثر غرابةً. ففي خطوةٍ مفاجئة، أعلن المرشح الجمهوري دونالد ترامب الأسبوع الماضي تعيين غابارد رئيساً مشاركاً لحملته الانتقالية للرئاسة.
جاء هذا بعد أن أعلنت غابارد تأييدها لترامب قبلها بفترة على أنه المرشح الأفضل لتولي الرئاسة الأميركية. وحصل ذلك بعد أن أعلنت مغادرتها للحزب الديمقراطي عام 2022.
ويتحدث مراقبون عن إمكانية تأثيرها البالغ في سياسات الرئيس ترامب تجاه الثورة السورية وبشار الأسد، خاصةً مع تقاطع موقفهما في عدة قضايا، يتمثل أهمها في موقفها الإيجابي جداً من الرئيس الروسي بوتين، وهو نفس موقف دونالد ترامب.
قالت تارا ستماير لجريدة الغارديان البريطانية، وهي كبيرة مستشاري مشروع لينكولن، وهي مجموعة مؤيدة للديمقراطية ومناهضة لترامب: "كانت تولسي غابارد على الهامش كديمقراطية، وعندما اشتعلت فيها النيران، ومن أجل العثور على دورٍ ما، عادت لاستعمال قبولها في الحزب الجمهوري الذي كان ودودًا مؤيدًا لبوتين". ثم أضافت "لقد كانت مدافعةً عن بوتين والأسد في سوريا، وباعتبارها شخصاً كان في الجيش، فإنها تضفي مصداقية معينة على هذا الجناح من الحزب الجمهوري عندما تتحدث بحماس عن بوتين وروسيا".
من هنا، عاد إلى السطح ما تداولته وسائل إعلام أميركية أيام لقائها بترامب عام 2016 عن احتمال انضمام غابارد إلى إدارة ترامب، وأنه يُنظر إليها بشكل جدي لشغل وظيفة في الإدارة الجمهورية. وطرحت كاحتمالات مناصب مثل مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أو متحدثة باسم وزارة الدفاع أو مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بل إن الحديث حالياً يدور عن إمكانية تعيينها وزيرةً للخارجية أو للدفاع.
والغريب أن غابارد لم تتحدث أبداً عن رحلتها الأخرى إلى الحدود التركية السورية مع مجموعة من المشرعين في يونيو 2015، عندما التقت بقادة المعارضة الحقيقيين وضحايا براميل الأسد المتفجرة وأعضاء لواء الإنقاذ التطوعي المعروف باسم الخوذ البيضاء. لكن قصصهم، التي لا تدعم رواية الأسد، لم تظهر أبداً في خطابات غابارد خلال حملتها الانتخابية.
وقال معاذ مصطفى، المدير التنفيذي لفرقة العمل الطارئة السورية، والذي كان مرشد غابارد في تلك الرحلة عام 2015، لموقع أتلانتيك: "مثل الروس والإيرانيين ونظام الأسد، ترى تولسي أن أبناء الشعب السوري الذين يناضلون من أجل الكرامة إرهابيون، على الرغم من الحقائق التي رأتها وتدحض ذلك".
يبدو أن تحدي الجالية السورية مستمرٌ في ظل دور شخصيات سياسية مثل غابارد، التي وصفها كيرت بارديلا، مساعد جمهوري سابق في الكونغرس، في تصريحٍ لموقع بوليتيكو بقوله: "أعتقد أنه ليس لديها روح أو ضمير أو قانون أخلاقي".
هل ينتقل السوريون إلى الاعتماد أكثر على الحزب الديمقراطي مع الملابسات المذكورة؟
يبدو هذا سؤالاً يستحق الحوار في صفوفهم، ذلك أن التيار الصاعد في الحزب الديمقراطي هو أقرب إلى التمثيل الحقيقي لقيم العدالة الاجتماعية والمساواة والتعددية واحترام دولة القانون وحق الشعوب في تقرير مصيرها. في مقابل الاهتراء الذي حصل للحزب الجمهوري في زمن دونالد ترامب، حيث أصبح أقرب لحزبٍ توتاليتاري يعبد شخصية الزعيم الرمز المُلهم، فضلاً عن إعجاب ترامب الساحق بالزعماء الديكتاتوريين في العالم، وافتتانه بقوتهم، ورغبته في إقامة أقوى العلاقات معهم، بدلاً من الديمقراطيات التي يجدها ضعيفة.
الاختلاف في الرأي هنا لا يبدو سلبياً، ولكنه يجب أن يكون مدروساً، وعلى طريقة توزيع الأدوار بين الحزبين، كما هو الحال مع كل اللوبيات الأخرى التي تبحث عن تحقيق مصالحها في خضم تعقيدات المنظومة السياسية الأميركية!
خاصةً وأنه يبدو أن تحدي الجالية السورية مستمرٌ في ظل دور شخصيات سياسية مثل غابارد، التي وصفها كيرت بارديلا، مساعد جمهوري سابق في الكونغرس، في تصريحٍ لموقع بوليتيكو بقوله: "أعتقد أنه ليس لديها روح أو ضمير أو قانون أخلاقي".