يُعدّ هذا المقال استكمالا لسلسلة من مقالات ثلاثة كتبتُها في موقع تلفزيون سوريا سابقا عن أدوار الجيوش في المراحل الانتقالية بالتحديد ومواقفها من الثورات، في مسعىً للمشاركة في نقاش نظري عن سؤال: متى تحصل الانقلابات العسكرية؟
استعرضتُ في المقالات السابقة حالتَي تونس ومصر، وأعرّجُ اليوم على الجيش السوري بمناسبة الذكرى الرسمية لتأسيسه التي تصادف عادة الأول من شهر آب/ أغسطس. قبل ذلك يمكن استعراض بعض الأدبيات السابقة عن الجيوش وأدوارها وعن العلاقات المدنية العسكرية
1. ريبة قديمة وفشل فرضية الحياد في العالم الثالث
نظرت غالبية أدبيات الفكر السياسي في مرحلة الدولة القومية بعين الريبة إلى العسكر، إذ ظلت مقولة مكيافللي الشهيرة عن "أن العسكري لا يمكن أن يكون رجلا صالحا" حاضرة دائما لدى الحكام والأمراء في ترتيب شؤون الدولة والحكم. فخلال القرن العشرين حصلت طفرة كبيرة في دراسة العلاقات المدنية العسكرية لعدة أسباب مثل الحربين العالميتين، وموجات التحرر والاستقلال في دول العالم الثالث. ضمن هذا السياق، يعد كتاب صموئيل هنتينغتون (Samuel P. Huntington) الصادر عام 1957 بعنوان: الجندي والدولة Soldier and the State باكورة النصوص التأسيسية في تشريح العلاقة المدنية العسكرية، وكيفية جعل العسكر "الأقوياء" تحت السيطرة المدنية. وبحسب هنتينغتون، فإن منح العسكر استقلالية في تدبير شؤون مؤسستهم تسهم في صناعة جيش قوي ومحايد يقوم على مبدأ "احترافية الضباط"، وانصياعهم
طوعا لحكم المدنيين. وعلى هديه، سار كثيرون لعل أبرزهم روبرت دال (Robert A. Dahl)، إذ ربط في كتابه Democracy and its Critics الصادر عام 1989، بين سيطرة المسؤولين المنتخبين على سياسات الحكومة وقراراتها وفقا لما تكفله الدساتير، وبين تبعية القوات المسلحة تبعية كاملة وطوعية للسلطات المدنية المنتخبة.
وُجّهت انتقادات عديدة لنظرية هنتينغتون وأتباعها؛ كونها تنطلق من نظرة سكونية عن علاقة الجيش والمدنيين من دون أن تشرح ديناميكية التفاعل والتشابك بين المجالين العسكري والمدني، على نحو يجعل معادلة الاستقلالية والاحتراف والحياد أقرب إلى أن تكون أفكارا مثالية. لقد انطلق هنتينغتون ومَنْ سار على هديه من واقع الدول الديمقراطية، ومن ثمّ جاءت أطروحاتهم لترسيخ هذا الواقع وتأكيده أكثر من تحليل أسباب تشكّله.
كما أن فكرة الإبعاد والحياد يصعب تطبيقها في الدول غير الديمقراطية، وهذا ما ذهب إليه صموئيل فاينر (Samuel Finer)، الذي ركز على دراسة مسببات تدخّل الجيش ومستوياته ونتائجه؛ بهدف توفير الأدوات النظرية اللازمة لتحليل الانقلابات التي شهدتها كثير من دول الشرق الأوسط في خمسينيات القرن المنصرم وستينياته.
ومايزَ فاينر بين أدوار الجيش في الدول الديمقراطية المتقدمة والدول غير الديمقراطية، ففي الأولى تنحصر مهمة الجيش بـ "الحارس" أو "الشرطي"، أما في الثانية فقد ارتبط دوره تاريخيا بالتحرر من الاستعمار وإعادة بناء الدولة.
أفسح تشابكُ المدني والعسكري في الأنظمة السلطوية، إضافة إلى موجات التحول الديمقراطي التي شهدتها دول أميركا اللاتينية وأفريقيا، ولاحقا دول أوروبا الشرقية؛ المجالَ لتجاوز السؤال البديهي عن علاقة المدني بالعسكري إلى تساؤل أكثر تحديدا يتعلق بمدى تقليل الآثار السلبية لتدخل العسكر بالسياسة، وكذلك مساهمة الجيش في تسهيل/ إعاقة التحول الديمقراطي.
وإذا كانت الأطروحات النظرية الأولى عن دور العسكر استلهمت مقولة مكيافللي السابقة، فإن مقولة لينين عن أنه "لا يمكن لثورة جماهيرية أن تنتصر من دون مساعدة قطاع من القوات المسلحة الداعمة للنظام القديم" أضحت أشدّ حضورا، وصيغت على أساسها الأطروحات الأساسية عن دور الجيوش في الثورات والتحول الديمقراطي كما جرى مع ثيدا سكوكبل (Theda Skocpol)؛ إذ رأت أن نجاح ثورة ضد نظام ما لا يرتبط بالسخط الاجتماعي، وإنما بقوة جهاز الدولة القسري وتماسكه وفعاليته في قمع المعارضين أو قابليته للاستجابة لهم.
وتأسيسا على ما سبق، عالجتْ إيفا بيلين (Eva Bellin) متانة السلطوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتطرقت إلى أربعة متغيرات ترتبط ثلاثة منها بالمتغير الأول والأهم ألا وهو استجابة الجهاز القسري/ الأمني.
على أهمية دراسة بيلين، فإن غموضا إجرائيا اكتنف مصطلح "الجهاز القسري"؛ أهو الجيش (أو قوات الأمن) أم "الجيش الخاص"؟ وما طبيعة أدوار كليهما؟ وكيف يتفاعلان فيما بينهما؟ أيتفقان أم يتعارضان في التوجهات؟ وقد حاول زولتان براني (Zoltan Barany) في دراسته بعنوان “explaining the military response to revolution”، حل الإشكاليات السابقة؛ بالتركيز على موقف الجيوش فقط خلال الثورات والمراحل الانتقالية، وخلص إلى أن سلوك الجيش يتحدد في ضوء مجموعة من العوامل وفق الآتي: مصادر المعلومات التي يحصل عليها الجيش عن الثورة والقوى المدنية، والتماسك الداخلي للمؤسسة العسكرية أو انقساماتها، ومعاملة النظام للجيش ومكانته الشعبية، وشعبية الثورة، واحتمالية حدوث التدخل الخارجي.
2. تطبيق تجريبي عن الجيش السوري
بعد أسبوعين على اندلاع الاحتجاجات في سوريا، وقبل بدء الجيش عملياته العسكرية الأولى في درعا يوم 25 نيسان/ أبريل 2011، طرحت صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد في موقع فيسبوك على متابعيها (100 ألف متابع حينئذ) سؤالا مفاده: هل تعتقد أن الجيش سيقف إلى جانب الشعب على غرار تونس ومصر؟ وجاءت النتيجة كما هو متوقع؛ لا (70%)، نعم (30%). ومع أن مثل هذه الاستبيانات لا يعتدّ بها علميّا، فإنها عكست في وقت مبكر معرفة المناوئين لنظام الأسد بطبيعة المؤسسة العسكرية وسلوكها المستقبلي تجاههم. وبناء عليه؛ يركز تساؤلنا المركزي على تحولات الجيش السوري منذ الاستقلال حتى اليوم، والتي جعلته يستقرّ في الوجدان الشعبي لشرائح اجتماعية عريضة بوصفه جيشا للنظام لا الدولة.
تختلف نشأة الجيش السوري عن نظيرَيه في تونس ومصر؛ فهو ليس سليل الحركة الوطنية ضد الاستعمار، كما أنه حديث النشأة مقارنة بالجيش المصري "العتيق". وقد ورث هذا الجيش الذي تأسس بعد الاستقلال عام 1946 في هيكليته وضباطه وأفراده جيشَ الشرق الذي شكلته فرنسا على ركائز أقلّويّة (طائفيّة، وإثنيّة، وأقواميّة) لمساعدتها في التصدي للمقاومة الوطنية في مستعمراتها. شكلت المسألة (الأقلّويّة) علّة دائمة للجيش السوري على الرغم من سعي الضباط الجدد (كتلة الضباط "الشوام"، والناصريين، والشيوعيين) لتصحيح هذا الخلل قبل انقلاب البعث عام 1963. لكن العلّة الأخطر تمثلت بالطموحات السلطوية للضباط؛ فتاريخ سوريا في المرحلة 1946 - 1970 حافل بالانقلابات العسكرية. وكان انقلاب البعث عام 1963 أخطرَ هذه الانقلابات؛ إذ دأب "مجلس قيادة الثورة" بقيادة صلاح جديد في مسعاه لتشكيل جيش عقائدي "بعثي" من أبناء الريف على استبعاد كتلة الضباط الشوام، والناصريين، وهو ما مثّل بصورة أو بأخرى استبعادا للضباط "السنّة" المنحدرين من المدن الكبرى. ومع أن حافظ الأسد سعى بعد انقلابه عام 1970 إلى تصحيح (سُمّي بالحركة التصحيحة) نهج صلاح جديد باجتذاب بعض الضباط الذين أُقصوا سابقا، فإنه أعاد "تطييف" الجيش بعد المواجهة مع الإخوان المسلمين ومجزرة حماة في عام 1982. وفي الفترة الممتدة من عام 1983 إلى عام 2000، أعاد الأسد الأب هندسة الجيش والمؤسسات الأمنية ليضمن تفوق "العلويين" المنحدرين من أصول عشائرية معيّنة للوقوف إلى جانب النظام ضد أي تمرد محتمل. فعلى سبيل المثال، جرى استبعاد عشائر معيّنة ينحدر منها صلاح جديد ومحمد عمران وبعض الضباط العلويين الذين اعتقلهم أو نفاهم حافظ الأسد بعد عام 1970.
ليس هذا فحسب، فقد أُدخلت في عقيدة الجيش شعاراتٌ تحصر ولاءه وتبعيّته بالزعيم الأوحد والأب القائد مثل "قائدنا إلى الأبد؛ الأمين حافظ الأسد"، وتسلّم أبناء الرئيس وأقاربه، والمنحدرين من منطقته (جبلة – القرداحة) المناصب العليا.
باختصار، شهد الجيش السوري منذ تأسيسه تحولات بنيوية عميقة قلبته من جيش وطني (1946 - 1963) إلى جيش بعثي عقائدي "ريفي - طائفي" (1963 - 1983)، ثم إلى جيش عقائدي "عائلي – طائفي" (1983 - 2000). وقد سار الرئيس الوريث بشار الأسد على نهج والده في هندسة الجيش وهيكلتِه. لكن في عهده دخل الجيش لأول مرة في الاقتصاد على نحوٍ غير مباشر، ليتماشى مع نهج "اللبرلة الاقتصادية"، في استنساخ التجربة المصرية عن طريق إرضاء الضباط "الأقوياء" المحالين إلى التقاعد وأبنائهم بمنحهم امتيازات اقتصادية،
أو تشجيع رجال الأعمال الجدد على بناء شركات تجارية معهم، وزيادة رواتب العسكريين على نحو متكرر لضمان الولاء التام، وهو ما تحقق له خلال الثورة. فعلى الرغم من الانشقاقات الأفقية الكبيرة (المجندين)، فإن البناء الهيكلي للجيش ظل متماسكا عصيّا على أية انشقاقات عمودية مؤثرة، من شأنها أن تترك تأثيرا كبيرا. كما استفاد الجيش من شبكة الدعم الإقليمية (حزب الله – العراق – إيران) والدولية (روسيا) لضمان استمرارية تفوقه في حربه ضد الثورة وفصائل المعارضة.
وعلى الرغم من المأساة الإنسانية المتفاقمة بعد 12 عاما من الصراع، لم يتخلَّ الجيش عن عائلة الأسد ولم يحصل أيُّ خلل بنيوي داخله يهدد الرئيس. فالأخيرة ماهَتْ (جمَعتْ) بين العائلة والنظام، وبين النظام والدولة على المستوى المؤسساتي، وبين النظام وشرائح مجتمعية (الطائفة العلوية). لذلك لم يكن في قدرة الجيش (أو أية مؤسسة أخرى) أن يستقلّ أو يأخذ مسافة فاصلة عن النظام؛ لأن الخروج على النظام كان بمنزلة الخروج على الدولة والمجتمع، وعليه فإن أي تسوية قد تفتح بابا للإصلاح أو التغيير ربما تؤدي إلى تفكك النظام؛ كونه يشبه في درجة انغلاقه وقمعه النظام السوفييتي سابقا، والذي لم تنفع فيه التحسينات الشكلية التجميلية، بل قادت إلى انهياره.
حافظَ الجيش السوري على وجوده كمؤسسة وبنية، لكنه فقد مقومات استمراريته كمؤسسة يَجمع عليها السوريين وأضحى طرفا إلى جانب الميليشيات المسلحة الأخرى في حرب النظام على السوريين، ولن يكون بمقدور السوريين قبوله كما هو في المستقبل من دون تغيير جذري كامل لا يشمل قيادته وعقيدته العسكرية فحسب؛ بل أدواره الاقتصادية وشبكاته الاجتماعية.