يعد هذا المقال استكمالا لنص تأسيسي بعنوان "متى تحصل الانقلابات العسكرية؟ استنتاجات نظرية من تجارب عربية" سلّط الضوء على أبرز الأدبيات والمساهمات النظرية الغربية والعربية التي تناولت مواقف الجيوش من الثورات والمراحل الانتقالية. ويعد أيضا حلقة ثانية في سلسلة متعددة يحاول الكاتب الوقوف من خلالها على تجارب عربية بتفصيل مقتضب لفحص دور المؤسسة العسكرية ومواقفها، بعد أن استعرض الحالة التونسية حلل مجموعة من العوامل والمحددات، أنتجت في سيرورة تفاعلاتها التاريخية والسياقية جيشًا "محايدًا" بالمعنى الإيجابي والسلبي و يُعنى بوظائفه التقليدية "الدفاعية".
تُعَدُّ المؤسسة العسكريّة ركيزة من ركائز الدولة المصرية الحديثة "المركزيّة" منذ تأسيسها في عهد محمد عليّ باشا وأسرته من بعده، حتى وقتنا الراهن؛ فمنذ انقلاب "يوليو 1952" الذي أطاح الملكَ فاروق؛ تعاقب على حكم مصر خمسة رؤساء ينتمي أربعة منهم إلى المؤسسة العسكريّة، في حين أن الرئيس المدني الوحيد محمد مرسي لم يستمر في السلطة إلا عامًا واحدًا حتى انقلب عليه الجيش عام 2013.
توصف دراسة الجيش المصري بأنها بالغة التعقيد والتشابك، فبغض النظر عن حجمه الكبير (470 ألف مقاتل دائم، 800 ألف مقاتل احتياطي) والذي يجعله في قائمة ترتيب الجيوش عربيًا، والثاني عشر عالميًا، يتداخل في سلوكه العسكري مع السياسي، والاقتصادي، والدوليّ (الخارجي). وبتوصيف آخر؛ لا يمكن البتّة دراسة المؤسسة العسكرية انطلاقًا من وظائفها التقليدية "الحارسة"، وربما هذا ما دفع الباحث يزيد صايغ إلى تسمية دراسته حول الجيش المصري بـ "جمهورية الضباط" والتي تتبوأ مكانة "فوق الدولة".
قاطرة الاقتصاد والتنمية
إلى جانب الحضور السياسي لقادتها ضمن "مجلس قيادة الثورة"، أنيطت بالمؤسسة العسكرية أدوارٌ متعددة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر (1956 - 1970)، إذ وجهت موارد الدولة نحوها بوصفها الضامن الرئيس للأمن القومي المصري في مواجهة التحديات الخارجية (الصراع مع إسرائيل) من جهة، ولكونها الفاعل الأساس في عملية التنمية والتحديث من جهة أخرى. وبناء عليه؛ أضحت قاطرةَ الاقتصاد في المجالات الزراعية والصناعية والخدمات العامة، وتولت إنشاء المشاريع القومية الكبرى، وإقامة البنى التحتية، وتوفير السلع الأساسية.. إلخ.
وبعد وفاة عبد الناصر، حاول خلفه ورفيقه في مجلس قيادة الثورة أنور السادات تحجيم النفوذ السياسي للجيش؛ بهدف اتباع سياسات أشدّ انفتاحًا داخليًا (المنابر 1976)، وخارجيًا (اتفاقية السلام مع إسرائيل 1978)، وكذلك نزع الصبغة العسكرية أو تحكم الضباط بمؤسسة رئاسة الوزراء. ولتحقيق ذلك، مع ضمان استمرارية ولاء الجيش للنظام؛ كان لا بد من تعويض أفراده بالعلاوات وزيادة الرواتب، وتوسيع مشاركته في النشاط الاقتصادي بمنحه الامتيازات والاستثمارات، ابتداء من التصنيع العسكري وصولًا إلى الزراعة والسياحة، وانتهاء بصناعة الأدوات المنزلية، وكانت جميع هذه الإيرادات تذهب إلى خزائنه من دون أي رقابة من الدولة، فضلًا عن المساعدة السنوية الأميركية.
طبقت هذه الوصفة الناجحة في عهد السادات وتوسعت أكثر في عهد مبارك، ويعاد تطبيقها بفاعلية في عهد السيسي. لكن، إذا كان نظام مبارك قد حرص على ضمان مصالح الجيش مقابل دوام الولاء، فما الأسباب التي دفعت الجيش إلى التخلي عن مبارك إبان "ثورة يناير 2011"؟
انقلاب على مبارك لحماية النظام
لقد عالجت دراسات عديدة هذا الجانب وخلصت إلى أسباب وجيهة بلا شك؛ مثل معارضة الجيش توريث الحكم لجمال مبارك المتحالف مع رجال الأعمال الجدد، وتحجيم نفوذ وزارة الداخلية التي تعاظم عددها ودورها في العقدين الأخيرين من حكم مبارك، والعلاقة الإيجابية مع المجتمع، وتخوفه من انشقاقات في صفوفه إذا ما انحاز إلى النظام.
لكن ما سبق لا يشرح السبب الجوهري، وفي رأينا؛ إن إجبار الجيش مبارك على التنحي جاء لحماية نفسه والسلطة التي أنشأها بعد فشل النظام في قمع الثورة في ميدان التحرير؛ فلم ينحَز الجيش المصري إلى أي طرف، على الرغم من الاندفاع الشعبي العارم لاستمالته. وتؤكد مجريات ما بات يعرف بـ "موقعة الجمل" في 2 من شباط/ فبراير 2011 الحياد السلبي للجيش؛ إذ ظلت قواته تراقب المواجهة، وتنتظر المنتصر، في مشهد يناقض بيانه الأول الذي تعهد فيه بحماية المحتجين. ولما عجز النظام عن وأد الثورة، وتصاعدت المواقف الدولية المنادية برحيل رأس الهرم فيه، قرر المجلس العسكري إقصاء مبارك لتحقيق بعض مطالب المحتجين وامتصاص غضبهم واحتواء تصعيد محتمل، وفي الوقت ذاته إنهاء ثورتهم بإفراغ الميادين وتسلم الحكم لترتيب المرحلة الانتقاليّة بما يضمن مكانته وامتيازاته.
إن إجبار الجيش مبارك على التنحي جاء لحماية نفسه والسلطة التي أنشأها بعد فشل النظام في قمع الثورة في ميدان التحرير؛ فلم ينحَز الجيش المصري إلى أي طرف
وبتوصيف آخر، استمال المجلس العسكري المحتجين لتحقيق أهدافه بدلًا من الانحياز إليهم لتحقيق أهداف الثورة. ونجح في الالتفاف على مطالبهم بالتغيير الديمقراطي الشامل والعدالة الاجتماعية، بمنحهم جرعات جزئية تحفيزيّة (تعديلات دستورية طفيفة، ومحاكمة النظام السابق، وإطلاق الحريات) لتجنب أي نقاش حول موقعه، ونشاطه، ودوره. وضمن السياق ذاته، نجح الجيش خلال المرحلة الانتقاليّة في إيجاد تسويات مع قوى سياسية تقليديّة "معارضة"، بشكل خلخل تحالفات الثورة (الميدان)، وأحدث شرخًا بين الشباب وهذه القوى، ونقل الثورة إلى صراع وتنافس سياسي على السلطة (البرلمان، والرئاسة). وبكلمات عبد الفتاح ماضي، تحولت الثورة في مصر من خلال ترتيبات الجيش في المرحلة الانتقاليّة من ثورة ديمقراطيّة إلى ثورة انتخابية (Electoral Revolutions).
التنافس على الحكم لا النظام
كما أسلفنا حدد عزمي بشارة في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، مجموعة محددات يُسهّل توافرها انقلابَ الجيش في المرحلة الانتقالية ألا وهي؛ عدم الاتفاق على شرعية الدولة بوصفها كيانا منفصلا عن النظام، ووجود قيادة عسكرية طامحة، وشرخ بين النخب السياسية، وتحوّل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي، وتفضيل الحكم والانفراد به على مسألة الالتزام ببناء نظام ديمقراطي.
بالإسقاط على الحالة المصرية، توافرت غالبية الشروط السابقة باستثناء أولها حيث إن الدولة المصرية راسخة في وعي النخبة والشعب المصري بغض النطر عمن يحكمها. لكن القوى السياسية المصرية وبدل أن تتفاوض مع الجيش على محددات الانتقال الديمقراطي تنافست فيما بينها على استمالته أو التفاهم معه، بل إن بعضها دعا إلى استمرارية حكم المجلس العسكريّ. وبناء عليه، لم يعد الجيش مهتمًّا بمن يصل إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات 2012 ما دام حصّن دوره ونفوذه في وثيقة المبادئ الدستورية (تشرين الثاني/ نوفمبر 2011)، وأضحى الرئيس المقبل بحاجة إلى دعم الجيش أكثر من حاجة الجيش إليه، وهذا ما حصل إبان حكم مرسي. فمع أن مرسي حاول كبح النفوذ العسكري في بيروقراطية الدولة، وإحالة قادته السابقين إلى التقاعد، فإنه وافق على تأصيل امتيازات الجيش في الدستور. وانطلاقًا مما سبق، فإن انقلاب الجيش على مرسي في 3 من تموز/ يوليو 2013، ربما لا تكون دوافعه تهديدات تنال موقعه ومكانته، على الرغم من انزعاجه من أن أغلب التعيينات (المحافظين ونوابهم) كانت على حساب حصته، بما فيها محافظات كانت محرمة على المدنيين مثل شمال سيناء والإسماعيلية والسويس، أو معارضته لبعض ملفات السياسة الخارجية (سوريا)؛ وإنما نتيجة الرغبة في انتزاع السلطة التي تخلى عنها مكرهًا للمدنيين، مستغلًا الاستقطاب الحاد وتراجع الثقة الشعبية بالرئيس المنتخب وبالأحزاب السياسيّة. وقد بدا ذلك جليًا في مرحلة ما بعد مرسي؛ إذ تخلّى الجيش عن وعوده بعدم التنافس على السلطة، ودفع بشخصية عسكرية إلى منصب الجمهورية، وأحكم سيطرته على مفاصل الدولة جميعها، وأخفيت أصوات المعارضين بالقوة، بمن فيهم من وقف معه.
القوى السياسية المصرية وبدل أن تتفاوض مع الجيش على محددات الانتقال الديمقراطي تنافست فيما بينها على استمالته أو التفاهم معه، بل إن بعضها دعا إلى استمرارية حكم المجلس العسكريّ
وفي الحصيلة، لم ينحز الجيش المصري إلى "ثورة يناير" ومطالبها بالتحول الديمقراطي، بل قام باحتوائها على طريقة "عناق الدب"، ليعيد ترسيخ حكم العسكر والدولة العميقة بوجوه جديدة أو متجددة.
دولة الجيش أم جيش الدولة
باختصار، عدّ الجيش المصري نفسه "فوق الدولة" مؤسساتيًا، وأصّل دوره ومكانته بوصفهما مبادئ "فوق دستوريّة"، لا تخضع للرقابة البرلمانية أو المساءلة الشعبية، بل احتكر حق تقديم المدنيين إلى "محاكمه". لذلك لم يربطه ولاء مطلق للنظام، ولم يخضع لأي التزام قانوني أو مؤسسي، واعتمد على رمزيته الوجدانية "الشعبية"، وتماسكه البنيوي، في واقع تهشمت فيه مؤسسات الدولة الأخرى، للتصرف بالدولة والمجتمع كما يريد. وبخلاف الحالتين السابقتين، أسهمت استقلالية الجيش التونسي عن النظام، وحياده تجاه مؤسسات الدولة في توفير الأوضاع الملائمة لبدء التحول الديمقراطي المستدام.
ومما لا شك فيه أن وجود مجتمع سياسيّ قوي، وطبقة وسطى في تونس مقارنة بمصر ترك تأثيره الإيجابي في المسار الديمقراطي. كما أسهم وجود أحزاب إسلامية مثل حركة النهضة، اتسم سلوكها بالبراغماتية والواقعية السياسية والابتعاد عن الأيديولوجيا والالتزام العقائدي؛ في تذليل عقبات كثيرة لحماية التجربة الديمقراطية الفتية، وتجاوز الاستقطاب الفكري والسياسي الحاد مع الأحزاب المختلفة عنها أيديولوجيًّا، أو المناوئة لها من تركة النظام القديم، وذلك بخلاف أخطاء حركة "الإخوان المسلمين" في مصر التي أبرزت في سلوكها قدرًا كبيرًا من السذاجة السياسية وسوء التقدير.
ولا شطط في القول إن عوامل مثل الموقع الجيوسياسي المهم، والثقل المركزي لمصر في النظام الإقليمي العربي، وقربها من "إسرائيل"؛ ألقت، بخلاف تونس، بتداعياتها السلبية على المسار الديمقراطي هناك، ودفعت قوى إقليمية وعربية متضررة أو متخوفة إلى إجهاضه. لكن دور المؤسسة العسكرية يبقى بمنزلة حلقة الوصل في سلسلة العوامل السابقة؛ إذ لا يمكننا الجزم بالنتائج ذاتها في تونس، لو قرر الجيش التونسي الاستجابة لحركة "تمرد"، أو استدعاء القوى الليبرالية واليسارية وتركة النظام القديم له للتدخل ضد حكم الترويكا. في المقابل، كان من المرجح أن يؤدي "انعزال" الجيش عن حسم مشهد 30 من حزيران/ يونيو 2013 بتلك الطريقة إلى نتائج مغايرة لما تعيشه مصر حاليًّا. وتُعدُّ المظاهرات التي أعقبت الإعلان الدستوري (تشرين الثاني/ نوفمبر 2012) مثالًا إجرائيًا على نجاح الضغط الشعبي على السلطة المدنية المنتخبة ديمقراطيًا، وذلك بخلاف نتائج مظاهرات "ماسبيرو" إبان حكم المجلس العسكري أو مظاهرات ميدانَيْ رابعة والنهضة بعد الانقلاب.
وفي الختام، إن الثورة والتحول الديمقراطي عملية مستمرة تتقدم حينًا وتتعثر أحيانًا، ويخبرنا التاريخ عن تجارب مماثلة لمصر مثل تشيلي وفنزويلا (إلى حد ما)، تعثّر مسارها نتيجة دور المؤسسة العسكرية، ووصلت في نهاية المطاف إلى تسويات تاريخية، تفضي إلى نظام حكم ديمقراطيّ.
وقد تحدث صموئيل هنتينغتون في كتابه الموجة الثالثة، عند استعراضه لأنماط التحول الديمقراطي، عن نمط ترددي "يتأرجح ما بين النظم السلطوية والديمقراطية حيث تبلغ الفساد أو الفوضى درجة تدفع الجيش للتدخل للتخلص من الوضع القائم. لكن النظام العسكري يفشل في التعامل مع المشكلات الاقتصادية ليعود مرة أخرى إلى ثكناته بعد فشله وتفاقم السخط الشعبي عليه فاتحا الباب لعودة الديمقراطيّة"، وهذا ما نرجح حصوله في مصر على المدى الطويل؛ إذ لا مستقبل للنظام العسكري الحالي بأدواته الحالية، لأنه يقوم على الإقصاء التام والقمع الشامل في مجتمع لا يزال يعيش في حالة ثوريّة.