في الموقف من زيارة سوريا

2022.07.27 | 07:11 دمشق

في الموقف من زيارة سوريا
+A
حجم الخط
-A

ظلت، إلى وقت قريب، تلبية أية دعوة لحضور فعالية ثقافية أو فنية في رام الله في فلسطين المحتلة بالنسبة إلى العرب مثقفين ومبدعين تشكل نقطة فارقة في التاريخ الشخصي للمدعو، سوف تظل تذكر في سيرته الشخصية، وسوف تظل مثار جدل واتهامات مختلفة، أولها التطبيع الدافئ مع العدو الإسرائيلي، فتلبية أية دعوة تستلزم الحصول على موافقة أمنية وسياسية أولا من دولة الاحتلال، وفي حال أتت الموافقة فهذا يستلزم الانتظار على المعبر الحدودي مع الأردن، حيث سيكون التعامل مباشرا مع عناصر جيش الاحتلال ومع شرطته وأمنه، وهو ما فيه تأكيد على سلطته وإعطاء مشروعية لهده السلطة، وهو ما كان مرفوضا سنوات طويلة جدا إلى أن بدأت الأوضاع تتغير بعد ٢٠١١، حيث الحدث السياسي العربي جعل من دولة احتلال مثل إسرائيل في موضع مقارنة مع أنظمة عربية لطالما ادعت الوطنية، لكنها ظهرت على حقيقتها كأنظمة إجرام لا تقل عنصرية وفاشية عن الاحتلال بل وتتفوق عليه في وقاحتها في الإجرام.

امتناع العرب عن تلبية دعوات مؤسسات ثقافية وفنية في الداخل بمثابة حصار آخر للفلسطينيين الذين يحاولون العيش وهم يتحايلون على حصار الاحتلال وسياساته

لكن قبل ٢٠١١ كان سؤال الموافقة على زيارة رام الله والأراضي المحتلة سؤالا مشروعا وأخلاقيا، فالموافقة تعني، كما قلنا، منح مشروعية لسلطة الاحتلال واعتراف بوجوده وهو ما كان مرفوضا من قبل العرب ومن قبل الفلسطينيين المقيمين خارج فلسطين ممن لا يمكنهم العودة. كان الأمر لهؤلاء هو سؤال الأخلاق أولا على زملائهم الالتزام به اتساقا مع طروحاتهم ومبادئهم. في مقابل ذلك، كان الأصدقاء الفلسطينيون الذين يعيشون في الأراضي المحتلة أو أراضي السلطة الفلسطينية يحتجون على رفض قبول الدعوات من قبل المبدعين العرب معتبرين هذا أشبه بالتخلي عنهم من قبل إخوتهم وأصدقائهم العرب أو من الأجانب المناهضين لإسرائيل والمؤيدين للقضية الفلسطينية، وكانت أسبابهم للاحتجاج أيضا منطقية وإنسانية، فالسياسة العربية والعالمية كانت وما زالت غير معنية بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وغير معنية بحقوق الشعب الفلسطيني وغير معنية بحل عادل للقضية، والتسويف كان وما زال، أيضا، سيد المواقف العربية بما يخص القضية الفلسطينية ما يعني أنه لا شيء سيتغير في وضع فلسطينيي الداخل، وامتناع العرب عن تلبية دعوات مؤسسات ثقافية وفنية في الداخل بمثابة حصار آخر للفلسطينيين الذين يحاولون العيش وهم يتحايلون على حصار الاحتلال وسياساته.

تعود إلي هذه المواقف مع كل خبر عن زيارة مبدع أو مثقف أو فنان عربي إلى سوريا خلال السنوات الماضية، وأتذكر كل ما قاله أصدقاؤنا الفلسطينيون سواء في الشتات أو في الداخل الفلسطيني في المواقف المشابهة، فمن ناحية أشعر بالغضب كلما سمعت عن تلبية مبدع أو مثقف لدعوة وصلته من سوريا، ليس فقط لأن في هذا محاولات لتبييض صفحة نظام مجرم كنظام الأسد، ولا أيضا فقط لأن في تلبية دعوات كمثل هده تجاهل لمأساة السوريين وتجاهل للكوارث التي حلت بهم، وتجاهل للدمار الحاصل في سوريا، وتجاهل لعشرات آلاف المعتقلين في السجون والمعتقلات السورية التي تملأ العاصمة دمشق المركز الرئيسي لأي دعوة ثقافية وفنية (تقام الحفلات الفنية مثلا أو ملتقيات النحت والفنون في قلعة دمشق أو في دار الأوبرا اللتين تقعان على مسافة قريبة من أبعد معتقل ومجاورتين لعدد كبير من الفروع الأمنية ذات السمعة المعروفة في تعديب المعتقلين وتصفيتهم)؛ لكن أيضا بسبب أن المدعوين يتجاهلون أيضا أن ثمة زملاء سوريين وأصدقاء ممنوعون من العودة إلى بلدهم، تخيلوا مثلا أن يزور سوريا مثقف مصري أو أردني بينما يعيش في مصر ولبنان والأردن مثقفون ومبدعون سوريون ممنوعون من العودة إلى سوريا تحت طائلة الاعتقال والاختفاء! هناك الكثير من الإحساس بالقهر وفقدان العدل سوف يصاب به السوريون هؤلاء، وثمة شعور بالغضب والكراهية سوف يعرف طريقه إليهم، وهو تماما نفس الشعور الذي كان لدى فلسطينيي الشتات لدى معرفتهم عن زيارة مثقف أو مبدع عربي لأراضي السلطة.

لا يمكن دعوة أي مثقف أو مبدع عربي يعتقد ولو مجرد اعتقاد أن النظام السوري ارتكب جريمة بحق شعبه، أو حتى أنه لم يحترم حق السوريين بالعيش الكريم

لكن ما هو ذنب من بقي في سوريا من الأهل والأصدقاء (سوريون قلة من ليس لديهم قريب أو صديق ما زال موجودا في سوريا) حتى يعانوا من حصار النظام وحصار الآخرين؟ ألا يحق لهم بعض التنفس والإحساس أن ثمة ما هو مجد في حياتهم؟ ألا يحق لهم تشارك سبل العيش والفرح والمعرفة والتواصل مع مثقفين ومبدعين يمكنهم زيارة سوريا ورؤيتها عن قرب ومعرفة أحوال ناسها وجها لوجه؟ بكل تأكيد ودون تردد: نعم يحق لهم هذا ويحق لهم لومنا على غضبنا عند معرفتنا بزيارة مبدع عربي إلى سوريا، فلا تجب معاقبة من اختاروا البقاء في سوريا بحرمانهم من أمر كهذا عبر الضغط على المبدعين العرب لمنعهم من الزيارة أو تلبية الدعوات الموجهة لهم. لكن من زاروا الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الماضية من المثقفين العرب هم مناهضون للاحتلال الإسرائيلي ومؤيدون لحقوق الشعب الفلسطيني وتراجعوا عن قرار المقاطعة لأنهم أدركوا أخيرا أنه لا حل قريباً للقضية الفلسطينية وأنه من حق فلسطينيي الداخل عيش حياتهم كما يليق بهم وبقضيتهم. وهو ما لا ينطبق على من تتم دعوتهم إلى سوريا، ذلك أنه لا يمكن دعوة أي مثقف أو مبدع عربي يعتقد ولو مجرد اعتقاد أن النظام السوري ارتكب جريمة بحق شعبه، أو حتى أنه لم يحترم حق السوريين بالعيش الكريم، كل من تتم دعوتهم هم مؤيدون تماما للنظام السوري ومؤيدون لطريقته في قمع الثورة ومؤيدون لجرائمه ويعتبرونه مثالا للنظام الوطني المقاوم والممانع.

هؤلاء لن يستطيعوا رؤية الحقائق على أرض الواقع فالحقيقة بالنسبة لهم هي ما يقوله النظام فقط، النظام الدي يرون أنه انتصر على المؤامرة الكونية وعلى الإرهاب، أما ملايين السوريين بين مهجر ومنفي ومعتقل ومختف ومتشرد فهؤلاء كلهم خونة أو ضحايا الإرهاب لا ضحايا إجرام النظام. هنا يصبح الدفاع عن حق هؤلاء بتلبية الدعوات إلى سوريا هو دفاع عن خيارات النظام لا أكثر، وهو ما يليق بمؤيدي النظام السوري في سوريا ولا يليق بمن تبقى في سوريا من أصدقاء اختاروا البقاء نوعا من المقاومة أو تمسكا بحقهم في البقاء في بلدهم رغم كل الظروف.