فيلم الانتقام الرئاسي والمشهد المُنتظر

2023.08.29 | 06:00 دمشق

آخر تحديث: 29.08.2023 | 06:00 دمشق

فيلم الانتقام الرئاسي والمشهد المُنتظر
+A
حجم الخط
-A

أينما وجدت فكرة الانتقام وُجد الخراب، ومن يدخل إلى العمل السياسي ودافعه الانتقام لا شك أنه سيصبح طاغية، ورغم تشارك الطغاة في عموم الصفات، إلا أنّ بعضهم يصرّ على أنه استثناء في انتقامه وفي شكل طغيانه.

لا شك في أنّ البشر متشابهون عموماً في كل مكان انفعالياً ونفسياً وعقلياً، ولكن المتغير من ناحية ضبط علاقاتهم، هو شكل الحكم، الدولة ومؤسساتها القضائية والتشريعية، وشكل تعامل القضاء مع حياة الناس وعلاقاتهم ومع بعضهم البعض.

على مستوى العلاقات بين البشر، قد يرتكب الفرد بسبب حادثة ما وقعت لشخص يحبّه، جريمة باعتبار ذلك انتقاماً. ولا يترك للمحاكم ولا يقتنع بأن القضاء قادر على تحصيل حقه الشخصي وتحقيق العدالة، عند هذا النموذج من البشر تصبح فكرة العدالة محض هراء. وبدل علاج الجريمة من خلال القضاء يرتكب هؤلاء جرائم رداً على جريمة.

ماذا لو كان هذا الفرد رئيساً، وبعد مصادفة لحادث مروري على طريق مطار دمشق لشقيقه الأكبر منه باسل، تّم استدعاؤه على عجل ليبدأ تحضيره لنا كرئيس قادم.

ذات الشخص الذي تمّ تحضيره كرئيس، كان مهمّشاً في حياته العائلية وخاصة في علاقاته مع إخوته، فتطورت شخصيته ولكن باتجاه فكرة الانتقام. الانتقام ممن حوله من أصحاب القرار والانتقام من المجتمع بصفته كائناً لم يعش هو يوماً واحداً مع البشر العاديين ليتعرف إلى مشاعرهم وأفكارهم وهمومهم.

احتاجت المجتمعات البشرية لعقود لا بل دفعت ملايين الضحايا خلال صراعات أهلية وحروب من أجل أن تتعلم أن حلّ صراعاتها الاجتماعية والفردية يحتاج إلى مؤسسات تشريعية وقضائية، أي يحتاج إلى دولة

وصار هذا الفرد رئيساً، لكنه بالعمق يمتلك صلاحيات سياسية أكثر من ملك حكم في العصور الوسطى، ومن قرأ دستور 2012 يعرف أن أكثر من ثلثي الدستور عبارة عن صلاحيات للرئيس. فهو يستطيع أن يفعل أي شيء وكل السلطات التنفيذية والتشريعية والعسكرية تقع تحت إمرته.

احتاجت المجتمعات البشرية لعقود لا بل دفعت ملايين الضحايا خلال صراعات أهلية وحروب من أجل أن تتعلم أن حلّ صراعاتها الاجتماعية والفردية يحتاج إلى مؤسسات تشريعية وقضائية، أي يحتاج إلى دولة.

في سوريا الأسد ورّثَ الأب كرسي الرئاسة كما يورث غني أملاكه لأولاده. أعطاه البلد كاملاً وكأن البلد مزرعته الشخصية، ومنذ الساعات الأولى لاستلامه الحكم بدأت تصبح فكرة الانتقام سياسة عامة له، وتم تغذيتها ودعمها في مجتمع محطّم ومليء بالانقسامات، وغالبية أفراده يصارعون من أجل خلاصهم الفردي.

انتقم الرئيس من النخب المثقفة عندما بدأ ربيع دمشق وصدّق الناس في تلك الأيام خطاب قسمه الشهير، ولاحقاً تم اعتقال غالبية الأسماء الفاعلة في ذلك الحراك السلمي السياسي، ومن ثمّ القضاء على كل فكرة ربيع دمشق.

على مستوى رجال الحكم انتقم من غالبية الضباط العاملين من دورة باسل الأسد، فأبعدهم الرئيس المنتقم واحداً بعد الآخر.. تماماً كما انتقم حافظ الأسد من شقيقه رفعت وأبعد كل الضباط المتعاطفين معه في ثمانينيات القرن الماضي.

ولأنّ المحروم طويلاً لا يشبع من موضوع حرمانه، كان بشار الأسد يظهر اجتماعياً بسبب ومن دون سبب، وبدأت صوره تغزو الأماكن العامة والشوارع. إنه هنا ينتقم من كل الناس. يعاقبهم بمشاهدة صوره إجبارياً لقهرهم وإخضاعهم.  

الرئيس المنتقم تزوج من سيدة ناقمة أرادت أن تثبت لآل الأسد أنها تستحق أن تكون السيدة الأولى، حيث أنشأت فريقها الخاص منذ سكنها في القصر الجمهوري، وكان المطلوب من إعلام السلطة أن يفرد لها صفحات كاملة لتغطية أي نشاط اجتماعي تجريه، لا بل كان هناك صحفيات عاملات في المؤسسات الإعلامية متفرغات لمتابعة نشاطاتها. ولسان حالها يقول سأنتقم منكم جميعاً.

وحين تسيطر فكرة الانتقام على عقل الرئيس وزوجته، في مجتمع جرى ترويضه طوال عقود وعقود، يصبح كل شيء معرض للخراب. هل تذكرون تفجير خلية الأزمة عام 2012. لقد كان انتقاماً من كل من كان يرى أنه يمكن التعامل مع الحراك الاحتجاجي السوري من خلال السياسية لا من خلال الحلّ الأمني العسكري.

الآن وبعد أن انتقم الرئيس من الشعب وقتل وهجّر الملايين وأفقر الغالبية، وكان أن استنجد بزعيمين يضج رأسيهما بالانتقام، فالزعيم الروسي الذي يريد الانتقام من الغرب والزعيم الإيراني الذي يريد الانتقام من كامل الكوكب من أجل سيطرة فكرة الإمبراطورية الفارسية، الآن يتابع انتقامه ويريد البقاء رئيساً غصباً عن الجميع وهؤلاء الملايين الباقين هناك في الداخل يريد إخضاعهم بكل ما أتيح له من أساليب قهر وسيطرة وإخضاع.

في الغرب الذي يكرهه جداً الرئيس الناقم، يجري التعامل علاجياً مع الأشخاص الذين تسيطر عليهم فكرة الانتقام كمرضى نفسيين ويخضعون لعلاج قد يدوم سنوات

هذا هو الخراب الشامل، فالانتقام الذي تمّ تفريخه سياسياً واجتماعياً عبر إدارة الرئيس، أنجب فكرة الشبيحة وقطعان المخبرين والرعاع، كما أنجب جيشاً عقائدياً فاسداً يقود غالبية قطعاته ضباط يريدون الانتقام من كل حياة يرونها أمامهم.

في الغرب الذي يكرهه جداً الرئيس الناقم، يجري التعامل علاجياً مع الأشخاص الذين تسيطر عليهم فكرة الانتقام كمرضى نفسيين ويخضعون لعلاج قد يدوم سنوات. بينما في سوريا الأسد ومشتقاتها من دويلات داخل الجغرافيا السورية، يتّم تفريخ الانتقام باعتباره الطريق الوحيد للحكم والسيطرة على البشر.

والآن، لا بد من حلّ لوقف فيلم الانتقام الرئاسي المدمر والبدء بالمشهد الأخير لبناء دولة سوريا جديدة تؤمن العدالة لكل من يعيش على أرضها. هل نحلم؟ ربما. لكن دروس التاريخ تقول لنا إنّ كل تغيير يبدأ من حلم.