كثيرة هي الاتهامات التي أطلقها سوريون مختلفون ومنتشرون في كل العالم عن فيروز خلال العقد الماضي من الزمن، حملوها مسؤولية الرومانسية التي كان يعيش فيها السوريون حين يسمعون صوتها في الصباح، فتنسيهم الواقع المحيط بهم، وحملوها غضبهم من النظام السوري حين اعتبروا أنها كانت محابية له بعد أن تكفل في علاج زوجها وشريكها عاصي الرحباني في مرضه الذي أودى به لاحقا، وحملوها أيضا غضبهم من ابنها زياد، شريكها الفني الثاني، الذي لم يخف يوما إعجابه بالنظام السوري ولا بحزب الله وزعيمه في نفس الوقت الذي كان الحزب الإلهي المتحالف مع النظام يمعن في الفتك بالسوريين ويمعن في قتلهم وحصارهم وتشريدهم واحتلال بيوت سكنهم وعيشهم.
حمل السوريون فيروز مرارتهم من خذلان العالم لهم حين تركوا وحدهم في مواجهة إجرام لم يسبق له مثيل وصمتت هي حتى عن التعاطف أو عن ذكر المأساة السورية. صمتت فيروز تماما عما حدث ويحدث في سوريا وكأنها لم تكن تراه هي التي غنت للشام أجمل القصائد والتي ردد السوريون أغنياتها عنها كما لو أنها نشيدهم الوطني. كره السوريون فيروز كثيرا خلال العقد الماضي وكالوا لها ما لا يخطر في البال من فنون السخرية والاتهامات؛ وكأنهم بهذه الاتهامات والكراهية المفاجئة التي ظهرت يعوضون عن سنوات وعقود من الحب والتعلق بالصوت الذي لطالما كان للسوريين صوت وطنهم الوحيد، أو صوت وطنهم المأمول، ففيروز ليست سورية، وإن كانت أصولها من ماردين التي كانت يوما جزءا من بلاد الشام قبل أن ينتهي بها الأمر كمدينة تركية شأن الكثير من مدن وبلدات بلاد الشام، فيروز لبنانية (لكن هل ثمة فارق تاريخي بين سوريا ولبنان الذي كان هو أيضا جزءا رئيسا من بلاد الشام قبل اتفاقية سايكس بيكو). هكذا، كانت فيروز للسوريين شامية المنشأ وشامية الهوية وشامية الهوى (الشام هي بلاد الشام لدى العرب وهي العاصمة دمشق لدى السوريين).
قالت فيروز أجمل ما قيل في الشام بصوتها وبألحان عاصي الرحباني وبكلمات سعيد عقل، قالت ما لم يقله السوريون أنفسهم، وكأنها كانت تحب سوريا أكثر مما أحبها أهلها. لكن كما يقال إذا عرف السبب بطل العجب، فالثلاثي: فيروز والأخوان رحباني وسعيد عقل، كان عشقهم للشام أيديولوجيا بالكامل، فالشام كانت درة الهلال الخصيب، الهلال الذي اعتبره أنطون سعادة هو المؤهل لقيادة العالم العربي، وهو ما آمن به كل من وجد في فكر السوريين القوميين الاجتماعيين وفكر أنطون سعادة مناخا مناسبا للاستعلاء القومي ولاعتبار أن رابطة الدم التي تجمع سوريا الكبرى والهلال الخصيب هي رابطة مقدسة محملة على حضارة واحدة متفوقة، وهذا الرأي لا يختلف عما نادت به النازية وهتلر وادعاء الدم الأزرق المتفوق على الآخرين.
غنت فيروز إذا للشام بوصفها درة سوريا الكبرى وعاصمتها، وأحب السوريون ما غنته، رغم أن الغالبية العظمى من السوريين كانت تنتمي لحزب البعث (سواء أكان انتماء قسريا أو عن إيمان حقيقي) ذي الأيديولوجية القومية العربية الشاملة المضادة لأيديولوجية سعادة الضيقة. لكن في ظني أن حب السوريين لما قالته فيروز عن الشام ليس فقط لأن ما غنته كان فاتنا وبديعا وفائق الجمال سواء في صوتها الاستثنائي أو في الألحان الخارقة أو في قصائد سعيد عقل النادر مثلها في الشعر العربي، بل أيضا بسبب أن البدائل عنها لم تكن متوفرة أبدا.
تعلق السوريون إذا بفيروز لأنها الوحيدة التي كانت تعيد تنظيف ذاكرتهم من ربط الوطن بالنظام وتوجهها نجو الاتجاه الصحيح
لم يعرف السوريون مما يسمى أغاني وطنية إلا تلك التي تمدح النظام و(منجزاته) وتتغنى برأس النظام الذي لم تنجب الأمهات مثله، هكذا تم دائما ربط سوريا الوطن بالنظام، فمصطلح (سوريا الأسد) لم يأت عبثا، كان هناك جهد طويل لتدريب الوعي السوري على اختزان المصطلح في الذاكرة الجمعية، كانت (الأغنية الوطنية) هي إحدى أهم الوسائل لذاك الترسيخ، فحتى الأطفال يمكنهم حفظ الأغاني دون أن يضطروا لفهم المعنى، لكن الذاكرة تحتفظ بالكلمات فتصبح جزءا منها. ما من أحد من جيلي لا يتذكر أغنيات مثل (تسلم للشعب يا حافظ) أو (لا تقولو رح نبني السد) أو (يا حافظ يا ابن الشعب) والكثير غيرها مما جادت به قريحة الفن السوري، ثم تاليا الفن اللبناني بعد أن استقر الكثير من مغني لبنان في سوريا في نهاية سبعينيات القرن الماضي مع بدء الحرب الأهلية في لبنان (مروان محفوظ وسمير يزبك وعصام رجي وجورجيت صايغ كأمثلة). وحدها فيروز غنت للشام بوصفها الشام التي لا ترتبط بأحد (رغم البعد الأيديولوجي القومي السوري وراء هذا).
تعلق السوريون إذا بفيروز لأنها الوحيدة التي كانت تعيد تنظيف ذاكرتهم من ربط الوطن بالنظام وتوجهها نجو الاتجاه الصحيح: أغنية وطنية راقية وعظيمة في كل مقوماتها لا تتملق لأحد وترجع لهم وطنا يسعى البعض لامتلاكه حصريا في الوقت الذي عجز سوري واحد عن تقديم أغنية مشابهة سواء خوفا أو نقص موهبة (الخوف يعيق الخيال بكل حال ويقلل من الإبداع).
عندما قامت الثورة في ٢٠١١ متأثرة بالربيع العربي كان السوريون يحاولون استعادة سوريا الوطن وسوريا الهوية. كان من المفارقات المدهشة وقتها أن الثائرين السوريين (قبل ظهور أغاني الثورة) كانوا يعتمدون أغنيات فيروز عن الشام في جلساتهم السرية وفي بعض مظاهراتهم، في نفس الوقت الذي كان إعلام النظام يبثها على محطاته بوصفها معبرة عن الهوية السورية الأسدية. كانت تلك هي البداية، ثم بدأ الإجرام يأخذ أشكالا متعددة ضد السوريين الثائرين وحولهم إعلام النظام إلى خونة ومتآمرين وإرهابيين وعملاء بينما صوت فيروز تغني للشام في خلفية تلك الاتهامات. صمتت فيروز عن كل ذلك، لم تصرح أي تصريح ولم تقل حرفا واحدا في كل ما سبق، بينما كان السوريون، الذين لطالما أعادت لهم أغنياتها وطنهم الضائع، ينتظرون منها أية كلمة تعاطف تجعلهم يشعرون أنهم كانوا على حق في محبتهم الخارقة لها، مثلما كانوا على حق في محاولاتهم استعادة وطنهم وهويتهم من براثن الإجرام.
ظلت فيروز لدى سوريي النظام الأيقونة التي لم يمسها لا الزمن ولا الحرب ولا المتغيرات السياسية ولا الخراب الحاصل حولها ولا دمار الشام التي تغنت بها ولا تشريد أهلها
كانت فيروز تتقدم في السن وتتقدم في الصمت معا، هذا الصمت المطبق واجهته ردة فعل عنيفة لدى السوريين الذين تخلى عنهم الجميع، أو بالأصح لدى سوريي الثورة المخذولين من الجميع. بينما ظلت فيروز لدى سوريي النظام الأيقونة التي لم يمسها لا الزمن ولا الحرب ولا المتغيرات السياسية ولا الخراب الحاصل حولها ولا دمار الشام التي تغنت بها ولا تشريد أهلها (شآم أهلوك أصحابي وموعدنا أواخر الصيف آن الكرم يعتصر). لا شيء من كل ذلك غير من فيروز الأيقونة الصامتة لهم. دون أن يعلم أحد من السوريين المختلفين حتى الآن الموقف الحقيقي لفيروز التي كانت إلى ما قبل عشر سنوات مضت هي الوحيدة التي يتفق عليها جميع السوريين المختلفين حول كل شيء الآن حتى صوتها.