لعل الجنس البشري هو الكائن الحي الوحيد الذي يمارس طقوساً خاصة وممنهجة لأبناء جنسه ممن يرحلون في أجسادهم ويبقون في أرواحهم، ولأن معضلة الموت هي المعضلة الوحيدة التي لم يجد لها الإنسان المعاصر حلاً أو تفسيراً، يبقى التضامن الشعبي الغريزي ضامناً لإنسانية التجمعات البشرية، فإكرام الميت ليس في دفنه فقط، وإنما عبر تقديم تلك الطقوس المجازية التي تخفف من هلع الموت ورهبته على أهل الفقيد أو الفقيدة، مما يشكل تضامناً اجتماعياً رائعاً طوره الجنس البشري منذ قرون تفتح الذهنية البشرية على وعيها تجاه العالم الذي نعيشه وكيفية مداولة الحياة فيه، هذا التضامن هو شكل من أشكال الرغبة في تقديم الاحترام لروح من رحل، وهو أيضاً شكل واضح من أشكال التضامن والسعي للحياة رغم الرحيل الموجع. من أجل هذا كتبت المراثي والموسيقا الجنائزية وعزفت المارشات، وشيدت أروع المباني العمرانية في تاريخ البشرية من الأهرامات وحتى تاج محل والبانتيون والأبراج التدمرية.
هكذا تجد العائلات السورية تعقد أكثر من مجلس عزاء في عدد من الدول كي تفسح المجال لمحبي من فقدوا لتقديم العزاء والتضامن
يجمع الكثير من السوريون اليوم، وبعد انقضاء أربعة عشر عاماً على المحرقة السورية بأن مسألة تقديم العزاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي باتت بالنسبة إليهم معادلاً اجتماعياً للتواصل والتراحم، فبعد أن تفكك المجتمع السوري بفضل سياسات الساسة المسؤولين عن إدارته، أصبحت عمليات التفاعل الاجتماعي التي تمر في أي مجتمع عربي بكل يسر وسلاسة، مسألة معقدة ومريرة للجميع، بعد أن فُقدت الأرض وتشرذمت العائلات، وتباعد الأهل والأصدقاء، فبإمكان أي سوري وسورية أن يجد بسهولة نماذج محيطة به غاصت في التباعد واللاتواصل، وذروة هذه الحالات تكون عادة في حالات الفرح أو الحزن، حيث لن يجد أي زوجين حولهما الكثير من الأصدقاء كي يعلنا فرحهما في عقد قرانهما، وبالمقابل لن يجد أهل المتوفى الكثير من الأهل والأصدقاء ممن يمكنهم الوقوف إلى جانبهم في حالات الحزن والرحيل، وهكذا تجد العائلات السورية تعقد أكثر من مجلس عزاء في عدد من الدول كي تفسح المجال لمحبي من فقدوا لتقديم العزاء والتضامن، وتجد حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي يبث فيها محبو وأصدقاء الفقيد أشجانهم في حالات تعبير صادقة وعفوية تجاه خسارتهم وحزنهم، بحيث يجمع أغلبهم عن حسرته لعدم قدرتهم على الوجود الفيزيائي مع أهل الفقيد لتقديم العزاء والتضامن والتكافل. هكذا أصبح المجتمع السوري، ولمن لم يدرك بعد فإن المجتمع السوري سابقاً كان مجتمعاً نشطاً يحاول ردم فجوات الأخطاء التي ارتكبتها الطبقة السياسية عبر ممارسات التباعد والتشاحن، سابقاً كنا أمام مجتمع متماسك يحاول بشتى الوسائل النهوض ومقارعة المستقبل، مجتمع حي نابض، حاول بشدة وبكل الوسائل أن يسهم في بناء مستقبل بلاده، لكنه مُنع وحُييد.
اليوم وبعد نجاح المجتمع الدولي في الإبقاء على هيكل الدولة، والمساهمة في انهيار المجتمع، نجد أنفسنا في مواجهة أفراد يحاولون إعادة تجميع أنفسهم بالنوايا الطيبة والحزن على من فقدنا وسنفقد، أفراداً متناثرين في شتى أنحاء العالم، من الداخل السوري وصولاً إلى الأقصى جنوب الكرة الأرضية، تحثهم مشاعرهم على المشاركة في جنازات افتراضية لمن رحلوا وشكلوا جزءاً من ذاكرتهم، هذا الإصرار على التمسك بالعادات والواجبات يدل بشكل من الأشكال على رغبة شعبية عارمة بتجاوز كل أكاذيب السياسة وزواريب الاتفاقيات والحروب، إنه الشعب السوري الذي يعلن مع رحيل كل وجه عظيم من أمته بأننا هنا نقف متضامنين في مواجهة الموت الذي نرفضه وكل ما فينا يرغب في أن تفسح لنا الحياة المجال لأن نعيش كأي مجتمع في هذا العالم متسلحين بالكرامة والعنفوان.
يبقى الموت نقطة الالتقاء الوحيدة التي تلكز السوريين وتذكرهم على الدوام بأنهم ليسوا وحيدين في هذا العالم البارد الكئيب، وبأنه ليس لأحد أن يدلهم على من خسروا، فليس لغير السوريين دليل على أعلامهم، الفقد هو الفعل الأخير الذي يستنهض السوريين ويحثهم على مد أيديهم لبعضهم البعض، وهذا فعل اليائس الأخير.
يرحل السوريون لأنهم رفضوا الرحيل، يرحل السوريون لأنهم قُدوا من حرية، ولأن الرحيل في هذا المقام ظلم مضاف إلى ظلم مُعاش
نمد أيدينا لبعضنا كي نلتقط دفء حرارة الآخر البعيد، يرحل أعلامنا في دمشق، فتبكي أعين السوريين في كندا ومصر والخليج والأردن وأوروبا، يرحل أعلامنا في أوروبا فتكفهر سماء حلب ودمشق، وترتفع أمواج البحر في اللاذقية، ولا تتحرك وزارة الثقافة أو الإعلام في حكومات لا يدري سوى الله لما وجدت، يرحل السوريون فتهتز أشجار غابات أوروبا وصحفها حزناً على الشعب الذي يسير عبر القارات ليجد فرصة تمنحه كرامة للعيش فقدها في بلده، يرحل السوريون فتتحول صفحات التواصل الاجتماعي إلى منصات عزاء ورثاء وذكريات، لمن رحلوا ولمن لم يرحل، لعالم يتهاوى قطعة قطعة، ولذاكرة ثقبت مثل غربال صنع في حوران، لينخل قمح الجنوب كي تأكل مدن الشمال، يرحل السوريون فترفع أسماء من رحلوا في مظاهرات في الشمال وفي صرخات غضب في الجنوب، يرحل السوريون لأنهم رفضوا الرحيل، يرحل السوريون لأنهم قُدوا من حرية، ولأن الرحيل في هذا المقام ظلم مضاف إلى ظلم مُعاش، رغم بديهية الأمر وحتميته وقدريته، إلا أن الرحيل عند السوريين فيه غصة وطن وناس وأهل هم مثل لقمة جافة في حلقوم تعب من الصراخ في وجه المستقبل.
وكما أن الموت حق فالوطن أيضاً حق، والعزاء كذلك حق، ولمسة الكتف المواسية كذلك حق، من أجل كل ذلك يذكرنا الموت، نحن من بقينا على قيد الحياة بأن نستمر، كرمى لأولئك الذين لم يسعفهم القدر في البقاء ومتابعة المسير معنا جنباً إلى جنب.