أعادت الأحداث الأخيرة فلسطينيي ٤٨ إلى واجهة السياسة والإعلام الإسرائيلية، حيث صدر سيل من المقالات والتحليلات والسجالات الإعلامية التي فرضت هذا النقاش على الساحة الإسرائيلية، كما عمدت لتعرية جذور المشكلة وامتداداتها الضاربة في عمق بدايات تشكيل كيان الاحتلال، طالبت تلك النقاشات على صفحات الإعلام الإسرائيلي وفي أروقة مؤسساته الوقوف على واقع فلسطينيي ٤٨ في المؤسسات وكذلك في المجالات المشتركة كالاقتصاد من أجل احتوائهم بقوانين وسياسات تتدارك عمق الشرخ بين المكونات المتضاربة داخل المجتمع الإسرائيلي.
يعاني فلسطينيو ٤٨ مجموعة من السياسات التمييزية والعنصرية ضدهم يذكر منها:
أولاً السياسات التمييزية المؤسسية: وتمتد هذه السياسات لكل مؤسسات دولة الاحتلال، وأولها المؤسسة التعليمية، في تقرير منشور في صحيفة جيروزاليم بوست، تم الإشارة إلى أن الكتب المدرسية التعليمية في جهاز التعليم الإسرائيلي تربي على العنصرية والتمييز، وأن وزارة التربية والتعليم لم تعمل على تعميم وتعميق المركبات المخصصة لإحداث تغيير في نهج التربية الديمقراطية والمدنية والقيمية وفق ما أوصت به اللجنة العامة التي اعتمدت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
كشفت التقارير أن الوزارة لم تبادر لوضع سياسات تترجم توصيات اللجنة العامة إلى سيرورة دائمة تطبيقياً، وأنه لم يتم اعتماد خطة ملزمة لوحدات الوزارة كافة، بالإضافة لتهاون الوزارة في ترسيخ مفهوم مكافحة العنصرية في منهاجها التربوي الذي لا يحتوي في معالمه على مفاهيم الديمقراطية والعيش المشترك في المراحل التعليمية المختلفة.
أدت تلك السياسات إلى تفشي العنصرية بين الطلاب، التي ظهرت منذ البواكير مما دفع الوزارة بين العامين ٢٠١٥ و٢٠١٦ لوضع مؤشر للعنصرية لكنها لم تستكمل ذلك، كذلك الأمر بالنسبة للبرنامج التعليمي للعيش المشترك ومنع العنصرية الذي كان من المقرر اعتماده بدءاً من أيلول عام ٢٠١٦، لكنها لم تضع أدوات أو خطط لتنفيذ تلك السياسات ضمن مناهجها التعليمية، وأشارت التقارير إلى أن واحدا بالمئة فقط من دورات المعلمين موضوعها سياسات مواجهة العنصرية، وتبعاً لذلك في منتصف عام ٢٠٢٠ أوصت لجنة إعادة فحص وتحديث برامج تدريب أعضاء هيئات التدريس بأن يشمل المضمون التعليمي المنهجي الإلزامي موضوع مكافحة العنصرية والعيش المشترك إلا أنّ ذلك لم يحدث.
عانى فلسطينيو ٤٨ من سياسات التمييز الاقتصادي ضدهم عبر مؤسسات دولة الاحتلال
عكفت الكتب المدرسية على تصوير العربي كطابور خامس، كذلك رسخت صورته كبدائي مع الجمل بصورة علي بابا، وربطت صورته بالتخلف والفقر والجريمة واللصوصية، كذلك ربطت صورته بالإرهاب واللجوء، وعزز حالة العنصرية هذه ما يشهده العالم أجمع من تفشي ظاهرة العنصرية والشعبوية، التي وجدت لنفسها بيئة خصبة في المجتمعات متعددة الأعراق والأصول والثقافات، لكنها كانت أكثر حدة داخل دولة الاحتلال التي تقوم على أساس عنصري ديني يغرس ويعمق مبادئ استمرار الدولة على هذا البعد حصراً.
ثانياً: السياسات التمييزية المؤسسية الاقتصادية: عانى فلسطينيو ٤٨ من سياسات التمييز الاقتصادي ضدهم عبر مؤسسات دولة الاحتلال وأهمها الهستدروت وهي منظمة عمالية عبرية أسست عام ١٩٢٠، وعقد المؤتمر التأسيسي لها في حيفا في شهر كانون الأول عام ١٩٢٠، وتم اعتمادها كوسيلة لتحقيق مبدأ الفصل القومي على المستوى الاقتصادي والتنظيمي.
عمدت قوى اقتصادية يعود أصلها للسوق خلال العقدين الأخيرين بمحاولة توسيع نسيج العلاقات بين العرب والإسرائيليين في مواقع العمل، لكنها لم تعتمد سياسات دمج اقتصادي تقوم على سيرورة في هذا المجال حيث تشكل نقلة في علاقات الأغلبية الإسرائيلية بالأقلية العربية.
بعد الأحداث الأخيرة وفي أعقاب إضراب الكرامة الذي شمل فلسطينيي ٤٨ كانت هناك أصداء حادة من أجل التصدي لمعارضة المواطنين العرب تلافياً لسعيهم للانتفاض من أجل تغيير في مكانتهم البنيوية داخل المجتمع الاقتصادي الإسرائيلي، فقياساً لما حدث في أكتوبر عام ٢٠٠٠ حين انتشرت التوترات بين الفلسطينيين في ٤٨ والإسرائيليين فإن ذلك قد تسبب في إضعاف العلاقات الاقتصادية بين الطرفين وبشكل حاد، إلا أن اختلاف ردود الفعل على إضراب الفلسطينيين (إضراب الكرامة) والذي تراوح بين الفصل المباشر لهم من أعمالهم وردة فعل أخرى قامت على التفهم، هذا الحال الأقل حدة عن سابقه لن يكون هو السائد في حال تكررت الإضرابات أو المواجهات.
أظهرت الأحداث الأخيرة نقلة نوعية في طموح فلسطينيي ٤٨ فقد بدا واضحاً أنهم تحولوا من المطالبة بالمساواة الاقتصادية ليشمل وعيهم الاحتجاجي للمطالبة بعدالة سياسية وقومية ومدنية مع تعزيز هويتهم الفلسطينية، في حين قوبل هذا الأمر بانتقادات شديدة لسياسات الاندماج الاقتصادي التي وصفها مراقبون إسرائيليون بأنها حكمت المواطنين العرب بأماكن غير متوقعة داخل كيان الدولة، ووصفوا هذا الأمر بالخليط القابل للانفجار المحتمل.
ثالثاً: المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية: يعاني الفلسطينيون من شواهد تفرقة عنصرية في تعامل مؤسسات الأمن والشرطة والجيش ضدهم وبدا ذلك جلياً في الأحداث الأخيرة حيث تعرضوا لاعتداءات مباشرة وللضرب والقمع العنيف لاحتجاجاتهم، كذلك شنت مؤسسة الشرطة كثيرا من حملات الاعتقال لشباب فلسطينيين بطرق عنفية وعلى خلفية تلك الاحتجاجات في محاولة لتطويق نوايا الاحتجاج والانتفاضة الشعبية لديهم، كما عكفت الشرطة والجيش الإسرائيلي ووحدات المستعربين خلال المواجهات الأخيرة على حماية المستوطنين خلال قيامهم بمهاجمة الفلسطينيين في الداخل، مما عكس حالة فرز عنصرية في داخل تلك المؤسسات قوامها التعامل مع الفلسطينيين في الداخل كمكون أجنبي بالكامل عن الدولة ولا يخضع لحماية أجهزة الدولة من جيش وشرطة وإنما كان محل اعتداء لها عليه، مما دفع شبابا عربا من الداخل المحتل لتقديم استقالاتهم من أجهزة الجيش والشرطة احتجاجاً على ذلك.
بالنظر لحكومات نتنياهو المتعاقبة يلاحظ أنها اتبعت سياسة موحدة ضد الفلسطينيين في الداخل وتلك السياسة تقوم على قمع تطلعاتهم السياسية داخل دولة الاحتلال بكل الطرق الممكنة، واعتمد في حكوماته على تشكيلات من الوزراء العنصريين الذين عكفوا على التحريض تجاه الفلسطينيين وإشاعة أجواء التوتر الداخلي.
اشتهر نتنياهو بتصريحه العنصري في الدورة الثالثة لمؤتمر هرتسيليا للعام ٢٠٠٣ حين كان وزيراً للمالية في حكومة شارون، حيث اعتبر حينذاك أن الدولة تواجه مشكلة ديمغرافية تتمثل بفلسطينيي الداخل، وأشار حينذاك لأهمية تقديم يهودية الدولة على ديمقراطيتها وأي مكون آخر، مشيراً لأن وجود الفلسطينيين داخل دولة الاحتلال يشكل تحدياً ليهودية الدولة في حال زاد عددهم عن عدد اليهود، كذلك بأنهم يشكلون تحديا دائما لديمقراطية الدولة في حالة بقيت نسبتهم أقل خاصة أن عمليات الدمج في الاقتصاد والمجتمع ستهدد يهودية الدولة على كل الأحوال.
مثل تصريح نتنياهو خلال مؤتمر هرتسيليا حينذاك النواة التي ارتكزت وتشكلت على أساسها حكوماته المتعاقبة، مما أدى لتهميش الفلسطينيين في ٤٨، وأدت سياسات التهميش والتمييز تلك في مؤسسات الدولة المختلفة لتعميق الشرخ بين المجتمعين العربي واليهودي، واتجه منذ بداية الأحداث سيل من الخبراء والمراقبين والمحللين داخل دولة الاحتلال لدراسة جذور الهبة الشعبية التي انطلقت في صفوف الفلسطينيين في الداخل، ودعت بشكل غير مسبوق لضرورة الحديث بصوت مرتفع عن واقع الفلسطينيين والسياسات التي أفضت لهذا التنافر والتناقض الذي يشكل دافعاً لانفجار محتمل.
بعد أن ذهب نتنياهو أتى متطرفون أشد تطرفا منه، وتلك الوجوه التي صعدت للواجهة الآن ستحافظ على يهودية وقومية وعنصرية دولة الاحتلال، التي احتفظت بتلك المكونات رغم كل التغيرات السياسية التي تعرضت لها منذ النكبة الفلسطينية وقيام دولة الاحتلال، وأكثر ما يهدد واقع الفلسطينيين في الداخل اليوم الانقسامات في القيادات السياسية لهم، حيث التحالفات غير محسوبة النتائج التي يشكلها أعضاء الكنيست العرب مع أحزاب يمينية متطرفة، فيما يشي بأنها تعطي أولوية لوجودها في الكنيست بشكل سابق على نشاطها لتشكيل كيان فلسطيني جامع لفلسطينيي الداخل يكون بمنزلة نواة لكيان جامع للفلسطينيين في كل أماكن وجودهم.
عند الوقوف على حالات القمع والتمييز العنصري بتفاصيلها وتقارير الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون في الداخل المحتل، يبرز للواجهة ضرورة وحدة التمثيل الفلسطيني السياسي لهم، فالمطلوب من القيادة الفلسطينية أن تشمل ضمن خطتها السياسية والديبلوماسية الضغط على المجتمع الدولي من أجل مطالبة وإلزام دولة الاحتلال بإيقاف سياسة الاعتقال السياسي التعسفي في حقهم، كذلك ضرورة تقييم أوضاعهم الاقتصادية والإنسانية والحقوقية من قبل المنظمات الإنسانية والحقوقية من أجل مساءلة دولة الاحتلال عن جرائم التمييز العرقي والعنصري والقمع الدموي الذي أسفر عن ضحايا في صفوف الفلسطينيين في الداخل.
الأحداث الأخيرة عكست حالة من الوحدة الجغرافية والنضالية والمصيرية بين الفلسطينيين في كل مكان، وأنه من الصعب أن يتم إدماجهم
لا يمكن إهمال واقع الفلسطينيين في الداخل والتعامل معهم ككيان جغرافي وديمغرافي وسياسي منفصل عن الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، خاصة بأن الأحداث الأخيرة عكست حالة من الوحدة الجغرافية والنضالية والمصيرية بين الفلسطينيين في كل مكان، وأنه من الصعب أن يتم إدماجهم في كيان الاحتلال وفق السياسات التمييزية والعنصرية التي يعانونها تحت الحكومات اليمينية المتطرفة المتعاقبة في دولة الاحتلال، لذلك المطلوب من القادة الفلسطينيين الضغط باتجاه تأمين حماية دولية لهم عبر المنظمات الدولية وعدم تركهم فريسة لأجهزة دولة الاحتلال التي أثبتت وحشية غير مسبوقة في التعامل معهم ضمن الأحداث الأخيرة.