فارس الخوريّ: رمز وطنيّ في أزمنة التَّحول السُّوري

2025.01.10 | 06:11 دمشق

وعلى الصعيد الداخلي، عمل الخوري على تحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير التعليم، وتحسين مستوى معيشة السوريين. كما شارك في صياغة دستور حديث
+A
حجم الخط
-A

في صباح 8 ديسمبر 2024م، انبثق فجر جديد في سوريا مع سقوط نظام الأسد، إيذانًا بنهاية حقبة من الظلم والاستبداد وبداية عهد مليء بالأمل. ومع لحظة التحول هذه، عادت ذاكرة السوريين لتستحضر رموزًا وطنية ألهمت الأجيال بحكمتها ونضالها، وعلى رأسهم فارس الخوري، القائد الذي جمع بين الوطنية والحكمة، والاتزان السياسي، وكان بوصلة تُهتدى بها في أكثر المراحل تعقيداً في تاريخ سوريا المعاصر.

من هو فارس الخوري؟

فارس الخوري من مواليد 20 نوفمبر 1873م في قرية الكفير بقضاء حاصبيا في لبنان، لأسرة بروتستانتية، حيث كان والده يعقوب نجارًا يمتلك أراضي زراعية. وفارس تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة قريته، وأكمل دراسته الثانوية في المدرسة الأميركية بصيدا، قبل أن يبدأ مسيرته المهنية معلمًا في زحلة ثم مجدل شمس وصيدا. وفي عام 1894م، التحق بالكلية الإنجيلية السورية في بيروت، ونال درجة البكالوريوس في العلوم عام 1897م. ولاحقًا، عمل مديرًا للمدارس الأرثوذكسية في دمشق، ودرّس في مكتب عنبر. وبعدها عُين ترجمانًا للقنصلية البريطانية بين 1902 و1908م، وخلال تلك الفترة واصل دراسته الذاتية، فتعلّم الفرنسية والتركية، ودرس الحقوق، مما مكّنه من نيل شهادة معادلة الليسانس، ومزاولة مهنة المحاماة في دمشق.

الزعيم فارس الخوري: بوصلة السياسة الوطنية من العهد العثماني إلى الاستقلال السّوري

فارس الخوري هو أحد أعظم رموز الوطنية والسياسة في سوريا الحديثة، كانت مسيرته شاهدة على مراحل التحول الكبرى التي مرّ بها الوطن السوري. وقد بدأ نشاطه السياسي في عام 1908 بانضمامه إلى جمعية الاتحاد والترقي، ثم انتُخب نائبًا عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني عام 1914. لكن مع اشتداد القمع العثماني واتهامه بالتآمر، اعتُقل ونُفي إلى إسطنبول عام 1916، حيث عمل في التجارة. ومع انهيار الدولة العثمانية واحتلال فرنسا لسوريا، عاد فارس الخوري إلى دمشق ليبدأ مرحلة جديدة من النضال. وقد انتُخب نقيبًا للمحامين لخمس سنوات، وأسهم في تأسيس معهد الحقوق العربي والمجمع العلمي العربي، ليؤكد التزامه بالنهضة الفكرية والثقافية.

وفي أعقاب الثورة العربية الكبرى ووصول الأمير فيصل إلى دمشق عام 1918، انضم الخوري إلى الحكومة المؤقتة، وتولى منصب وزير المالية عام 1920. وكما عمل على تنظيم الاقتصاد السوري بإطلاق عملة الدينار، ووضع موازنة متكاملة، قبل أن تنتهي الحكومة مع دخول الفرنسيين إلى دمشق.

وخلال حقبة الانتداب الفرنسي، أسس فارس الخوري حزب الشعب مع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، إلا أن نشاطه السياسي أدى إلى اعتقاله، ونفيه إلى جزيرة أرواد عام 1925م. ورغم ذلك، لم تثنه السجون عن الاستمرار في النضال، فعاد ليقود الكتلة الوطنية مع هاشم الأتاسي.

الزعيم الخوري في القيادة السياسية السّورية

برز فارس الخوري كركيزة أساسية في الكتلة الوطنية التي تصدّت للفرنسيين، وأسهم في تحقيق التوازن بين المعارضة السياسية والعمل الحكومي. وشارك في الإضراب الستيني عام 1936، وكان نائبًا لرئيس الوفد السوري المفاوض مع فرنسا، حيث حقق مكاسب عظيمة مثل الاعتراف باستقلال سوريا وتشكيل جيش وطني. وفي تلك الفترة، رفض الخوري المشاريع القانونية الاستعمارية مثل المحاكم المختلطة التي حاول الفرنسيون فرضها، وعلى الصعيد المحلي، أسهم في تطوير البنية التحتية لدمشق، بما في ذلك مشروع مد مياه عين الفيجة بالتعاون مع لطفي الحفار عام 1932م.

فارس الخوري رئيساً للبرلمان السّوري  

انتُخب الخوري رئيسًا للبرلمان السوري عدة مرات، وكان أبرزها بين عامي 1936-1939 و1943-1949.  وكانت فترة رئاسته حافلة بالمواقف الوطنية، إذ مثّل سوريا في المحافل الدولية، ووقّع ميثاق جامعة الدول العربية عام 1945م. وكما أقنع السوريين بإعلان الحرب على دول المحور خلال الحرب العالمية الثانية، لتمكين سوريا من الانضمام إلى جمعية الأمم. وفي عام 1945م، قاد الخوري الوفد السوري إلى مؤتمر سان فرانسيسكو لتأسيس الأمم المتحدة، وأظهر براعة دبلوماسية استثنائية، ما دفع جامعة جنوب كاليفورنيا لمنحه الدكتوراه الفخرية.

وعندما قصفت القوات الفرنسية البرلمان السوري عام 1945، ترأس الخوري الوفد السوري إلى مجلس الأمن، حيث طالب بجلاء القوات الأجنبية "الفرنسية والإنكليزية" عن سوريا ولبنان. وكان موقفه الصلب بالتعاون مع حميد فرنجية ممثل لبنان حاسمًا في إنهاء الانتداب الفرنسي في إبريل عام 1946م.

رئاسة الوزراء والجهود الإصلاحية

في عام 1943م، فاز فارس الخوري بعضوية البرلمان ورئاسته، وفي 14 أكتوبر 1944م، تولى رئاسة الوزراء جامعًا بين وزارتي المعارف والداخلية. واعتُبر هذا الاختيار رمزًا للوحدة الوطنية والنضج السياسي في عهد شكري القوتلي. وكما تولى الخوري أيضًا إدارة الأوقاف الإسلامية، ما أثار جدلًا انتهى بتصريح النائب الأستاذ عبد الحميد طباع بأن "فارس الخوري أمين على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا".

وعلى الصعيد الداخلي، عمل الخوري على تحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير التعليم، وتحسين مستوى معيشة السوريين. كما شارك في صياغة دستور حديث

وعلى الصعيد الداخلي، عمل الخوري على تحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير التعليم، وتحسين مستوى معيشة السوريين. كما شارك في صياغة دستور حديث، مؤكدًا أن القوانين أدوات لتحقيق المساواة وحماية الحريات. وكان له بصمات كبيرة في تحقيق الإجماع الوطني على دستور الجمعية التأسيسية لسورية عام 1950م، والذي يعتبر أبرز إنجاز قانوني للسوريين بعد الاستقلال الوطني.

فارس الخوري والدور الدبلوماسي   

وفي عام 1947، انتُخبت سوريا عضوًا في مجلس الأمن، وترأس فارس الخوري المجلس، ليكون أول عربي يشغل هذا المنصب. استغل منصبه للدفاع عن قضايا سوريا والعالم العربي، ما عزز مكانته الدولية.

ورغم سلسلة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا، بقي فارس الخوري قريبًا من مواقع المسؤولية، وعاد إلى تمثيل بلاده في الأمم المتحدة. وفي عام 1954، مع بداية عهد جديد من الديمقراطية، كُلّف بتشكيل الوزارة في عهد الرئيس هاشم الأتاسي، لكنها لم تستمر سوى مئة يوم. ومثل الخوري في تجربته الوطنية نموذجًا للقيادة الحكيمة التي جمعت بين العمل السياسي والإصلاح الاجتماعي، والنضج والتبصر في إدارة الشأن العام، وظل اسمه رمزًا للوحدة الوطنية، والنضال من أجل الحرية والاستقلال الوطني.

فارس الخوري.. الحكيم والأديب

رغم انشغال فارس الخوري بالسياسة، إلا أن إبداعه الأدبي يظل وجهًا بارزًا من وجوه شخصيته المتعددة. فمنذ شبابه، كان الخوري مولعًا بالشعر، ونظم قصائد ذات قيمة أدبية عالية. ولعل من أبرز أعماله الشعرية "ملحمة الحرب اليابانية الروسية" التي نظّمها عام 1905م، وامتدت إلى مئات الأبيات وصف فيها وقائع الحرب بدقة وإنصاف، ما يُظهر اهتمامه بالقضايا العالمية وقدرته على تحويل الأحداث إلى أعمال أدبية خالدة. وطُبعت هذه الملحمة في كتيب صغير بتمويل من صديقه حسين حيدر، وأظهرت تفوقه في تطويع الشعر لخدمة التأريخ والأدب السياسي.

وترك فارس الخوري إرثًا أدبيًا غنيًا يضم أعمالًا عدة، من بينها "موجز في علم المالية" و"أصول المحاكمات الحقوقية"، بالإضافة إلى كتابه المفقود عن الحرب اليابانية الروسية وديوان مخطوط لم يُطبع. كما أسهم في الكتابة الصحفية بنشر مقالات في مجلات مرموقة في تلك الفترة مثل "الرسالة" و"المقتبس" و"المجمع العلمي العربي".

وكان فارس من المؤسسين الأوائل للمجمع العلمي العربي بدمشق عام 1919م، حيث نشر دراسات ومحاضرات أكدت اهتمامه بالثقافة والعلم. ونُشرت له محاضرتان في المجمع، هما "ارتباط البلاد على أصول الاتحاد" و"ديون الدولة العامة"، كما نشر مقالات مثل "فجيعة العرب بشوقي" عام 1933م.

والشيخ علي الطنطاوي، في شهادته عن فارس الخوري، أشاد بموهبته الأدبية والشعرية، وذكر أنه خلال حفلة في المجمع العلمي ألقى فارس قصيدة أثرت في الحضور بصوته الجهوري، إذ وصفها الطنطاوي بأنها نموذجٌ للتأثير الأدبي الذي يجمع بين قوة الكلمة وهيبة الأداء. وأثنى الطنطاوي على فارس بصفته واحدًا من أعظم أعلام الشام، موضحًا أن ما ميزه ليس فقط موهبته الأدبية، بل أيضًا ثقافته الموسوعية، وشخصيته المهيبة. وحكى عنه الشيخ علي الطنطاوي:

"وهذا الشيخ (الخوري) الذي شهدت بعبقريته الدنيا، وأكبرته الأجيال على اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها، ورأت فيه (شخصية) ضخمة .. والذي أعطاه الله هذا الذهن العجيب، فجعله لغوياً أديباً شاعراً حقوقياً مشاركاً في كل فروع الثقافة، وأمده بمنطلق سديد، وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء ما أعرف أحد منه ولا أمضى، وبديهة غريبة، وجعل له مع ذلك كله، هذا الرأس الكبير، وهذه الشيبة المهيبة. وهذا الصوت المدوي المليء بالعظمة والثقة بالنفس والتعالي، وهذا الصدر الواسع، وهذا الحلم مع القوة، وهذا الحزم بلا عنف، هذا الرجل لا يستكثر عليه أن يرتجل خطبة باللغة الإنكليزية، وأن يحول بها أفكار وكلام الدول في مجلس الأمن".

فارس الخوري في محطات الوداع

مع تقدم العمر، قرر فارس الخوري الابتعاد عن الحياة السياسية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ليتيح المجال للأجيال الشابة. ولكنه ظل حاضراً في المشهد الوطني من خلال تقديم المشورة والدعم لمن يلجأ إليه. وظل منزله في دمشق مركزاً للنقاشات والندوات الثقافية والسياسية، إذ استمر في خدمة وطنه حتى آخر أيامه. كان فارس الخوري مستشارًا حكيمًا يلجأ إليه الجميع، وسندًا لكل من تطلع لخدمة الوطن بإخلاص، وظل يحمل هموم سوريا حتى آخر أيامه.

وفي 26 رجب 1381 ه، الموافق 2 كانون الثاني/يناير 1962، رحل فارس الخوري عن عالمنا، تاركاً إرثاً سياسياً وإنسانياً عظيماً، ونعته إذاعة دمشق وإذاعة لندن، وكانت جنازته حدثًا وطنيًا مهيبًا، جمع السوريين من مختلف الطوائف في مشهد مؤثر، يعكس محبته واحترامه في قلوب أبناء وطنه.

إن خطاباته السياسية المؤثرة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، وحرصه الدائم على تعزيز الوحدة الوطنية، وصلاته الرمزية في الجامع الأموي التي جسّدت روح التآخي بين أبناء الوطن، ستبقى محفورة في ذاكرة سوريا كرمز خالد للتسامح والقيم الإنسانية السامية. فارس الخوري، الذي أوصى بأن يُقرأ القرآن على روحه، لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل منارة للوفاء والشراكة الوطنية التي جمعت كل السوريين على اختلاف انتماءاتهم.

وتجربة فارس الخوري تمثل درسًا خالدًا للشعوب الساعية لبناء أوطانها على أسس الحرية والكرامة. وفي سوريا الجديدة، بعد سقوط نظام الاستبداد، سيبقى إرث الخوري والزعماء الوطنيين السوريين أمثال هاشم الأتاسي وخالد العظم ومصطفى السباعي ورشدي الكيخيا وناظم القدسي وسعد الله الجابري وعبد الرحمن الشهبندر وصبري العسلي وجميل مردم بك وشكري القوتلي وغيرهم، نماذج يُحتذى بها في مسيرة العمل الوطني البنّاء، والرؤية الاستراتيجية المتوازنة التي تتطلع إلى مستقبل مشرق يجمع أبناء الشعب السوري في ظل دولة المواطنة والعدالة والحرية، والعيش المشترك.

 

كلمات مفتاحية