يتحدث سوريو الداخل على أن ما قدمته الدراما السورية خلال شهر رمضان 2024 هو جزء بسيط من الواقع المعاش الحالي في سوريا، فالعنف هو سيد الموقف حاليا، العنف بكافة أشكاله وأنواعه، بدءا من البيت مرورا بالشارع والمؤسسات الحكومية (تربوية وتعليمية وطبية واقتصادية وإدارية وغيرها)، وليس انتهاء طبعا بالعنف الأمني والعسكري والمتمثل بالقصف الذي لا يتوقف، سواء ذلك الذي باتت تنفذه إسرائيل بشكل شبه يومي، أو ذلك الذي يقوم به جيش النظام والقوات الروسية ضد المناطق الخارجة عن سيطرتهما، أو المتمثل في استمرار الاعتقالات والاختفاءات التي تطول الجميع ولأتفه الأسباب.
يتحدث السوريون في الداخل أيضا عن أن التردي المعيشي والانهيار الاقتصادي والفقر المدقع الذي ترزح تحته فئات كثيرة من الشعب السوري أدى إلى انتشار مهنة الدعارة التي لم تعد تشكل حرجا من امتهانها، بل باتت سوقا محكوما أيضا بمافيات كبيرة مرتبطة بالأجهزة الأمنية مثلها مثل مهنة التسول وعمالة وتجارة الأطفال. يقولون أيضا إن عائلات كثيرة تعرف أن بناتها يمتهن هذه المهنة ويصمتن لا خشية الفضيحة بل خشية الموت من الجوع والفقر والفاقة. وهو ذاته ما يقال عن انتشار المخدرات بكل أنواعها، الشعبية الرخيصة أو تلك الخاصة بالفئات الميسورة الحال.
وفي الحقيقة فإن سنوات الحرب الطويلة مع التاريخ المعروف للفساد الذي كرسه النظام السوري، سواء الفساد المؤسساتي والاقتصادي والسياسي أو الفساد المجتمعي المتمثل باستبدال قيم كبرى سامية كالخير والحق والعدالة والجمال بأخرى تحارب كل ما سبق وتراكم مفاهيم مشوهة عن الشرف والنخوة هدفها تعزيز الهويات الصغيرة والضيقة واللاوطنية، واعتبار كل من يتمسك بالهوية الوطنية المدنية العقلانية مارقا وخارجا عن تقاليد ومفاهيم المجتمع؛ ومع بقاء الحال السياسي والأمني على ما هو عليه في سوريا وتقسيم كعكتها على المتنفذين (نظام وبطانة النظام والحلفاء الخارجيين والدول الكبرى اللاعبة في الملف السوري)، فإن أي حديث عن تماسك المجتمع هو ضرب من ضروب الأوهام والخيال، فالحروب لا تنتج سوى الكوارث المتلاحقة ولا ينتصر فيها سوى الخراب والموت والدمار المادي والمعنوي والنفسي، فلا عجب إذا أن تكون هذه هي حال المجتمع السوري حاليا في كل مناطق سوريا، ولا عجب أن تنتشر الدعارة والإدمان والعنف والبلطجة والسرقة والخطف وعمالة الأطفال وتجارة الرقيق الأبيض، ما دام الفساد هو الناتج الوحيد لتلك الحرب الكارثية التي بدأت منذ عام 2011 ولم تنته حتى الآن، ولا يبدو أنها سوف تنتهي قريبا، رغم ما يقال عن هدوء أمني نسبي في سوريا.
ولعل نظرة بسيطة لنجوم الغناء السوريين حاليا والنماذج التي تقدم عن الأغنية السورية بكل ما تحمله من انحطاط في الكلام والموسيقا البدائية الخالية من أي إبداع أو تميز أو اختلاف، والأصوات الضعيفة والرديئة لمجموع المغنين والمغنيات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بدون أي تردد أو حرج لقب (أغنيه الكباريهات الرخيصة)، هو صورة واضحة أو مثال صارخ عن الحالة المجتمعية السورية المتردية إلى الحد الأقصى والتي غالبا ما تكون الأغنية صورة مباشرة عنها.
يقول أصدقاؤنا السوريون في الداخل إن ما قدم في دراما رمضان لهذا العام هو صورة عن الواقع السوري الذي يتوفق بمآسيه عما عرضته هذه الدراما
إذا، يقول أصدقاؤنا السوريون في الداخل إن ما قدم في دراما رمضان لهذا العام هو صورة عن الواقع السوري الذي يتفوق بمآسيه عما عرضته هذه الدراما؛ ونحن، من في الخارج نعرف هذا جيدا، إذ يكفي أن تكون سوريا حاليا خارج أي تصنيف عالمي للجودة في أي مجال، أو أن تكون ضمن الأوائل في التصنيفات العالمية لسوء المعيشة والفساد والخطر، والأولى في صناعة وتجارة المخدرات (التي تتم تحت إشراف النظام ومؤسساته الأمنية والعسكرية)، لندرك أن ما يقدم في الدراما السورية هو صورة عن الواقع المعاش حاليا داخل سوريا. لكن المتابع لما قدم (خصوصا في ولاد بديعة ومال القبان وكسر عضم) سوف ينتبه إلى قضية مهمة، أن صناع هذه الأعمال يتجنبون تماما تحميل النظام ومؤسساته أية مسؤولية عن هذا الخراب الذي يقدمونه في أعمالهم الدرامية، فالشعب هو الفاسد والخراب المجتمعي ناتج عن خراب النفوس، والعنف صفة متأصلة في هذا الشعب، أما المؤسسات الأمنية فتحاول قدر استطاعتها لملمة الخراب الحاصل، والفاسدون من هذه المؤسسات هم الاستثناء لا القاعدة. أما عن الدعارة والعنف والإدمان والتجارات الممنوعة فهذه نتائج للفساد المجتمعي، لكن أسباب هذا الفساد المجتمعي فهي، بالنسبة لصناع هذه الأعمال، تبقى أسبابا مجهولة، أو على الأقل، لا علاقة للنظام الحاكم ومؤسساته بها.
قبل بدء الموسم الرمضاني بأيام قليلة استقبل رئس النظام السوري مجموعة من الفنانين وصناع الدراما السوريين، في جلسة بدت غاية في الودية، تحدث فيها المجتمعون عن ضرورة تلازم مساري الفن والوطنية، وبعد انتهاء الجلسة كتب بعض المشاركين فيها عن (الأفكار القيمة والنيرة) التي طرحها السيد الرئيس بخصوص تطوير الدراما السورية. وفي الحقيقة لطالما كان النظام السوري في عهد الرئيس الوريث مهتما بالدراما السورية، حيث كانت شركات الإنتاج قبل الثورة كلها، دون استثناء، شركات تابعة للنظام وجزءا من عمليات تبييض أموال الفساد لدى بطانة نظام الأب والتي ورثها أبناؤهم في زمن الوريث، لهذا كان قاسيا جدا بالنسبة للنظام أن يتمرد بعض الفنانين عليه ويقفوا مع الثورة، إذ لطالما شكل صانعوا الدراما السورية في عهد الأسد الابن طبقة المثقفين الذين يحيطون بالعائلة الحاكمة، وبعضهم كان شديد الصلة بها وتربطه ببشار الأسد علاقة شخصية ومباشرة، كان النظام يعتبر أنه صاحب فضل على الفنانين السوريين وصناع الدراما، لهذا كان انتقامه عنيفا ممن وقف مع الثورة منهم. ولهذا أيضا ما يزال يراهن على من بقي منهم مؤيدا له، ويراهن على ما يمكن للدراما التلفزيونية أن تخدم صورته أمام العالم العربي على الأقل؛ وهو فعلا ما يتم حاليا، سواء في الأعمال التي تقدم في الدراما السورية المنتجة من شركات إنتاج سورية مدعومة من النظام ومصورة في داخل سوريا، أو من خلال ما يكتبه ويقوله هؤلاء عن (الفكر المنفتح والمدني) لبشار الأسد، متغاضين عما سببه من الخراب الكامل لسوريا ولشعبها ولمستقبل أطفاله وكل هذا الخراب والموت هو تضحية بسيطة في سبيل الوصول إلى (سوريا المفيدة والمنسجمة) التي طالما تحدث عنها بشار الأسد في خطاباته ولقاءاته خلال العقد الماضي.
وعلى ذكر (سوريا المفيدة) أقامت مخرجة مسلسل (ولاد بديعة) حفل سحور احتفالا بنجاح المسلسل دعت إليه مجموعة كبيرة من الفنانين والإعلاميين في سوريا ولبنان، الحفل أقيم في سوريا في قاعة تتصدرها صورة لبشار الأسد، وأحيت الحفل المغنية ريم السواس بادئة وصلتها بأغنية (فاحت ريحة البارود) فهل من مثال واضح عن سوريا المفيدة والمنسجمة أكثر من هذا الحفل؟ ومن باب العلم فقط فإن مخرجة (ولاد بديعة) كانت من المدعوات للقاء رئيس النظام السوري قبل رمضان وكتبت على صفحتها مادحة فكره النير والمتقد.