ثمّة كثير من خيبات الأمل لدى السوريين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم ممّا آلت إليه أوضاع بلدهم المنكوب، وقد تجلى هذا في عزوف فئاتٍ واسعةٍ منهم عن المشاركة في الشأن العام كما كان الأمر من قبل، مقابل حراك سياسي لفئات أخرى لا تزال ترى أنّ ثمّة إمكانية لتغيير هذا الواقع المكرّس بالحديد والنار والتطبيع المستجّد مع مسببه الرئيسي.
من مجمل هذا الحراك الأخير ما تصدّر المشهد خلال الأسابيع الماضية من ظهورٍ جديدٍ لفكرة المجلس العسكري، الذي تحدّث عنه العميد مناف طلاس بشكلٍ مباشرٍ لأوّل مرّة منذ خروجه من سوريا وانشقاقه عن جيش الأسد ونظامه. كذلك كان للإعلان عن اجتماع عددٍ كبيرٍ من منظمات المجتمع المدني تحت عنوان منصّة (مدنيّة) بقيادة رجل الأعمال أيمن الأصفري حضورٌ واضحٌ في المشهد. تتواصل أيضًا التحضيرات الخاصّة بمؤتمر القوى والشخصيات الديمقراطية (مؤتمر استوكهولم)، ويجري على قدمٍ وساق التحضيرُ لما بات يُعرف باسم (اللقاء السوري الديمقراطي) في برلين.
يأتي هذا كلّه، أي خيبة الأمل من البعض ومواصلة العمل من البعض الآخر، ضمن ظروف إعادة تعويم نظام القتل والإجرام الأشدّ فجاجة في بداية الألفية الثالثة من عمر البشرية. فبعد اثنتي عشرة سنة عجافًا عاد الأسد ليجلس على مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، وصحيح أنّه لم يحاضر وينظّر شارحا الفرق بين السيارات الحمراء وتلك الزرقاء، إلّا أنّه بيّن أهميّة الاختلاف بين الانتماء من جهة والتنقّل من حُضنٍ إلى حُضن من جهة ثانية، وها هو وزيرُ خارجيته يُستقبل بعراضة شاميّة استقبال الفاتحين في الرياض، لا بل ويحاجُّ بأنّ سوريا الأسد تقدّمت مئة خطوةٍ نحو العرب ولم ترَ منهم بعدُ أي شيء، وأنّه آن الأوانُ لوقف تجويع الشعب السوري! يا لفداحة الكارثة ويا لفصاحة العاهر حين تُحاضر بالعفاف!
خاب أمل السوريين الذين ثاروا على النظام، وأولئك الذين عارضوه بعد أن أدركوا دفعة واحدة أنّ ظهورهم باتت مسنودةً إلى الخناجر
خاب أمل السوريين الذين ثاروا على النظام، وأولئك الذين عارضوه بعد أن أدركوا دفعة واحدة أنّ ظهورهم باتت مسنودةً إلى الخناجر، وبعد أن صفعتهم حقائق كانوا يتغافلون عنها معلّلين أنفسهم بالآمال يرقبونها، فإذا بها أضغاثُ أحلامٍ دفعوا ثمنها دمارا فادحا وخسرانا عظيما في أرواحهم وهويّتهم ووحدة بلدهم. كذلك خاب أملُ السوريين الذين وقفوا مع النظام وساندوه، فلم يلتفت إلى جيوبهم الفارغة، ولا إلى ساحات قراهم التي باتت مقابر جماعية تنتصب أمامهم ليل نهار شاهدة على حجم فجيعتهم وتضحياتهم التي بذلوها فداءً لنعل حذائه الذي داسهم قبل غيرهم. وخاب أيضًا أملُ الذين آثروا السلامة في هذا الصراع المرير بين الحرية والعبودية، بين الكرامة والخنوع، فلا طالوا بلحًا ولا نالوا عنبًا، بل وجدوا أنفسهم طحينًا بين حجري رحى حلمِ التغيير وواقع الذل والجوع.
ما الذي تقدّمه المشاريع المطروحة على الساحة للسوريين؟ سؤال كبيرٌ لا إجابة واضحةٌ عليه، لكنّ المكتوب مقروءٌ من عنوانه كما يقول المثل، فالأنظمة انتصرت على شعوبها، وهي تعلنُ ذلك بكلّ صراحةٍ، لا بل هي تتقصّد الاحتفاء به من خلال الاحتفاء بالأسد ذاته. والنظام الدولي الذي بدأت مظاهر تحوّله من منظومة القطب الواحد مع انطلاقة ثورتهم، استكمل جزءًا لا بأس به من مسيرة الأقطاب المتعددة خلالها، فبات الوضع العالمي الآن أشبه بما هو عليه عشيّة الحرب العالميّة الثانية. فما هي قيمة سوريا ضمن هذه الخريطة المتشابكة من المصالح والصراعات؟ وهل يعدو حجمها حجم نملة بين أقدام الفيلة والديناصورات المتشابكة؟
ليست سوريا سوى بقعة صغيرة في الخريطة الدولية، ولا تعدو أهميتها بالنسبة للدول الكبرى أكثر من أهميّة آثار الصراع فيها ونتائجه المترتبة على هذه الدول ومجتمعاتها. فبالنسبة لروسيا هي تفصيلٌ ضمن حربها المستعرة مع الغرب كلّه من البوابة الأوكرانية، أما بالنسبة لأميركا فهي ساحةٌ للضغط على الإيرانيين في المنطقة من أجل إنجاز الملف النووي خاصتهم، وهي كذلك بالنسبة لحلفائهم الأتراك من أجل تحجيم اندفاعتهم الإقليمية مع فوز أردوغان وحزبه في البقاء بسدّة الحكم لأعوام خمسةٍ قادمة. أما الاتحاد الأوروبي الغارق في مشكلاته الكبرى، ومنها صعود نجم اليمين والخلافات مع بولندا وهنغاريا بشأن التغوّل المتصاعد للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية والذي ينذر بتقويض أسس الديمقراطية الأوروبية، ناهيكم عن أزمات الطاقة وسلاسل التوريد والتضخّم الناتجة جزئيًا عن الحرب في أوكرانيا، فإنّه، أي الاتحاد الأوروبي، لا يرى من سوريا سوى معضلة الهجرة غير الشرعية، ولعلّ الاتفاق الأخير الذي توصّل له قادته بشأن هذا الملف يضيء على مدى تأثيره في دولهم ومجتمعاتهم.
سوريا لا تهمّ الآن بشكل حقيقي سوى أهلها، وحتى من بقي من هؤلاء فيها مُجبرا تحت ضغط الظروف، فإنّه لا يفكّر إلا بالهجرة منها، ولعلّ مآسي الغرقى في لجج البحار، وآخرها أولئك الذين غرقت سفينتهم قبالة سواحل اليونان يوم الأربعاء في 14/6/2023، تحكي بعُصارة الألم المركّزة سرديّة التغريبة السورية المُستدامة.
سوريا تفصيلٌ هامشيٌّ جدا في هذا الكون، لكنّها رغم ذلك تشكّل عنوانًا لتوحش المرحلة المقبلة. أمّا المشاريع المطروحة لحلّ أزمتها فليست إلا مشاريع تخصّ الدول المنخرطة في الصراع الدائر فيها، فلا العربُ ولا العجمُ يهمّهم مصيرُ ثلاثة وعشرين مليونًا من السوريين، في النهاية ما يهمّ هؤلاء من حكّامٍ ومحكومين هو استقرارهم وازدهار اقتصادات بلدانهم، أمّا تلك الحفرة فلنطمرها على عجلٍ بمن فيها من أجسادٍ هزيلة وأرواحٍ تائهةٍ كي نطوي صفحة وخز الضمير الإنساني، إن وجد، إلى الأبد.
عاد الأسدُ أدراجه من قمّة الرياض بخفّي حُنين لا يُسمنان من اقتصادٍ ولا يُغنيانِ من سياسة أو سيادة، وبقيت "سورية تعيسةً كعظمةٍ بين أسنان كلب" كما وصفها رياض الصالح الحسين قبل ثلاثين عاما، وسيبقى السوريّون في تيههم وتغريبتهم المستدامة، ما لم تُثمر جهودُ من آثر العمل منهم على القنوطِ خيرًا، ولعلّها تُثمر.