من النادر في علم الآثار أن يستوجب اكتشافٌ واحد إعادة النظر في التاريخ الإنساني برمّته. وموقع غوبكلي تيبي في جنوب شرقي تركيا يندرج ضمن هذه الفئة.
لقد عرف الإنسان غريزة التديّن منذ عشرات آلاف السنين وعبّر عن تلك الغريزة برسومات الكهوف المنتشرة في كثيرٍ من مناطق العالم، إلا أننا طالما اعتقدنا أن الدين المنظّم القائم على بناء المعابد وأداء الطقوس الجماعية هو أمرٌ عرفه الإنسان مؤخراً في عصر البرونز، بعد أن اكتشف الزراعة في منطقة الهلال الخصيب وانتقل للاستقرار والعيش في جماعاتٍ كبرى في الحواضر والقرى. لكن موقع غوبكلي تيبي، الذي يعود للعصر الحجري الحديث (النيوليت) ويؤرَّخ بحدود 9800 عام قبل الميلاد، جاء لينقض هذه النظرية ويرجع بتاريخ ارتقاء الإنسان روحياً وتنظيمياً لعدة آلاف أخرى أبعد مما كنا نعتقد.
اكتُشف موقع غوبكلي تيبي في أواسط تسعينيات القرن الماضي على يد عالم الآثار الألماني كلاوس شميت، الذي خلُص إلى أن الموقع لم يكن مستوطنة بشرية، حيث كان الإنسان ما يزال صيّاداً ومتجوّلاً في ذلك العهد. واستنتج شميت أن الموقع استُخدم كمجمّعٍ طقوسي (cult complex) أو معبد بلغةٍ أوضح، تحلّق حوله في مواسم معينة مئات وربما آلاف الصيادين الأوائل الذين سكنوا منطقة سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب في العصر الحجري الحديث.
زرت معبد غوبكلي تيبي قرب أورفا للمرة الأولى بعد افتتاحه للجمهور عام 2019، ولفت نظري في الموقع ضخامة الهياكل الحجرية المنحوتة فيه في وقتٍ لم يكن الإنسان قد اكتشف المعدن بعد. فالهياكل المنصوبة في المعبد نُحتت عن طريق إعمال أزاميل ومطارق وأنصال من حجر الصوان القاسي في كتلٍ كبيرة من الحجر الجيري الغضّ. وقد عاينتُ بنفسي كسر الصوان الأحمر في كل مكان في الموقع، بل والتقطت بعضها مما كان ما يزال يحتفظ بحوافّه المدببة وأحضرتها معي للبيت كتذكارٍ فريد.
الإنسان الصياد المتجول الذي كان يعيش في ذلك الجزء من سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب، وخصوصاً في المنطقة الممتدة في أعالي نهر الفرات شمالي سوريا وجنوبي تركيا، قد طوّر بنى مجتمعية معقدة.
كان البشر في العصر الحجري يعيشون في جماعاتٍ متنقّلة لا يتجاوز تعداد أفرادها مئة إلى مئة وخمسين شخصاً، لكن الأعمدة الضخمة لمعبد غوبكلي تيبي قد احتاجت تضافر جهود 500 إنسان كحدّ أدنى لنقل ونحت كل واحدٍ منها، حيث لا يقلّ أصغرها وزناً عن عشرين طنّاً. وهذا يدلّل على تطور الحسّ الاجتماعي عند إنسان العصر الحجري ومقدرته على التواصل والعمل الجماعي في وقتٍ كانت فيه الجماعات البشرية تعيش فعليّاً منعزلةً ومتباعدة عن بعضها البعض.
نُحتت الأعمدة في غوبكلي تيبي على شكل حرف T ونُقشت على كلّ واحدٍ منها صورةٌ لحيوانٍ مختلف، كالأسد أو العقرب أو الثعلب أو الأفعى. لا يُعرف على وجه التحديد لماذا اختار الإنسان هذه الحيوانات. فالعبادة التي كانت شائعةً في ذلك الزمن هي على الأغلب عبادة الأسلاف، وقد تكون التصاوير الحيوانية تلك مجرد شعاراتٍ ترمز لعشائر الصيادين المختلفة التي شاركت في بناء غوبكلي تيبي وقصدته للتعبد فيه على مدى الثلاثة آلاف سنة التالية.
يفيد الموقع إذاً أن الإنسان الصياد المتجول الذي كان يعيش في ذلك الجزء من سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب، وخصوصاً في المنطقة الممتدة في أعالي نهر الفرات شمالي سوريا وجنوبي تركيا، قد طوّر بنى مجتمعية معقدة وابتدع ديانات منظمة بينما كان ما يزال في مرحلة الصيد والالتقاط وهائماً على وجهه، ليس بيده ما يحمي نفسه به غير العصيّ الخشبية والسكاكين الحجرية. فأية إرادة وأية عبقرية توفرت لدى إنسان العصر الحجري في هذه البقعة من العالم حتى ينجز هذا العمل السابق لعصره؟ والسؤال الأهم هو: أية معتقدات وتصورات مجردة أمدّت الناس في ذلك الزمن بكل تلك الطاقات الروحية لتجسيد ما جسدوه من رموزٍ وإشارات لم نفهمها تماماً حتى الآن؟ ماذا كانوا يخبئون من آراءٍ وأفكارٍ ومفاهيم عقلية؟ كيف كانت شخصياتهم الداخلية؟ وأية لغة معقدة امتلكوها حتى نجحوا في التنظيم والتواصل لبناء معبدٍ هائل في وقتٍ كانت الإنسانية فيه ما تزال في مرحلةٍ أقرب للهمجية ولم تعرف الاستقرار ولا القوانين ولا النبوّات ولا الرسل ولا الكتب السماوية التي لم تتنزل على بني البشر إلا في مراحل متقدمة عندما نجحوا في بناء الحضارة وأرسوا النظم والحكومات والدواوين والكتابة؟
فالدين الرسميّ المنظم أقدم بكثير مما كنا نتصور. والإنسان الذي كان عليه أن يقلق في العصر الحجري أين سيجد في الغد شجرةً مثمرةً يقطف منها طعامه أو غزالاً برّياً يصطاده ويشويه، كان لديه من عمق الشعور وقوة التفكير المجرّد ما جعله يتعاضد مع أفراد نوعه للتأمل فيما وراء هذا الكون المادي البسيط الذي عاشوا فيه، مدركين أن هناك لا ريب معانٍ أعمق بكثير من التقاط الثمار وصيد الحيوانات، ثم النوم في العراء أو عند أول كهفٍ أمكن لهم الاحتماء فيه. والموقع يدلّل أيضاً على مرحلةٍ متقدمة من التخطيط والتفكير الهندسي رغم غياب اللغة المكتوبة والعجز عن وضع المخططات الأولى قبل الشروع في البناء والتصاوير. فهل كان الإنسان في العصر الحجري أكثر ذكاءً وانضباطاً منا كي يبني غوبكلي تيبي من دون ورق ولا كتابة ولا مخططات ولا توزيع أدوار واضح ومكتوب؟
إن زيارة معبد غوبكلي تيبي واجبةٌ على كل إنسانٍ من أي بلدٍ كان، وخصوصاً السوريين، فهو واقعٌ فعلياً في سوريا الطبيعية قديماً والتي كانت تشمل في الماضي جنوب الأناضول.
يقع موقع غوبكلي تيبي على هضبةٍ مرتفعة قليلاً عن منطقةٍ سهليةٍ واسعة تمتد في الأسفل منها، وهو ما وفر كمياتٍ كبيرة من القمح والشعير البريين اللذين انتجع عليهما بناة المعبد خلال فترات العمل والعبادة هناك. كما أن المنطقة، التي هي في النهاية جزء من إقليم الجزيرة السورية الخصيب بين دجلة والفرات، كانت زاخرة بقطعان الغزلان والخنازير والماعز التي اصطادها بناة غوبكلي تيبي واقتاتوا عليها. ولعلّهم بدؤوا باستئناس أعدادٍ منها بالقرب من المعبد لتوفير الطعام أثناء أيام العمل الطويلة وما تحتاجه من ترك التجوّل من أجل الأكل يوماً فيوم. وبعض العلماء يعتقد أن الزراعة انطلقت بالتزامن مع مرحلة بناء المعبد عندما صار الصيادون القدماء يجتمعون بأعدادٍ كبيرة فاحتاجوا كمياتٍ أكثر استقراراً من الطعام، وهذا ما دفعهم للبحث عن حلولٍ مُستدامة، فنشأت الزراعة واستُئنِس الحيوان.
إن زيارة معبد غوبكلي تيبي واجبةٌ على كل إنسانٍ من أي بلدٍ كان، وخصوصاً السوريين، فهو واقعٌ فعلياً في سوريا الطبيعية قديماً والتي كانت تشمل في الماضي جنوبي الأناضول. والمعبد خير شاهدٍ على أن الإنسان العاقل في سوريا الكبرى أو منطقة الهلال الخصيب كان سبّاقاً بآلاف السنين في الارتقاء المادي والروحي على أقرانه البشر في باقي مناطق العالم. ليس عجباً إذاً أن هذه البقعة المركزية جغرافياً وتاريخياً ما تزال رغم انقضاء العهود مهوى أفئدة الناس، وملتقى تطلعاتهم، وبؤرة تنافسهم وصراعاتهم.
فأي سرٍّ مبثوثٍ في هذه الأرض؟