لم يكن نبلاء القرون الوسطى، في أوروبّا، ينكرون حريّة غير النّبلاء في حراثة الأرض وتربية الماشية وخدمة السّادة، إنّما كانوا يشكّكون في أهليّة غير النبلاء لوعي "الخير" المطلق، المتعلّق بالغيبي، لذلك كان يجب أن ينتصر عامة الإنجليز والفرنسيّين بعد ثورتيهم عام 1688، وعام 1799؛ لتُطيح العامّة بمفاهيم وتعيينات الوعي القديم، وتصيغ مفاهيم وتعيينات الوعي الجديد على مستويين اثنين:
الأول: تعيين المفاهيم الثقافية عن الإنسان المساوي لغيره في الحريّة والكرامة الإنسانيّة، وتعيين المجتمع المدني كإطار للمصالح المدنيّة في الواقع الملموس؛ لا الغيبي، ولجميع الأحرار المتساوين في السّيادة؛ لا النخب النّبيلة فحسب.
الثاني: تعيين المفاهيم السياسية الجديدة حول سلطة الأفراد واستقلالهم وسياداتهم التي تنبعث منها السّلطة السّياسيّة الشّرعيّة للدفاع عن مصالح الخير المدني، ومن ثمّ فقد غيّرت العامّة شكل وحدود الاجتماع السياسي من مجتمع الرّعايا إلى مجتمع العقد الاجتماعي ودولة المواطنة.
وحتى نهاية القرن العشرين كانت الليبراليات الغربيّة قد نفت القسم الأكبر من تناقضاتها الداخليّة، وانتقلت إلى التّنافس خارج حدودها للسيطرة على أملاك "الرجل المريض"، في الوقت الذي كنّا، نحن في الشّرق، لا نزال لتوّنا نلحظ بوادر الإصلاح الإداري في الدولة العثمانيّة سنة 1876.
أدركت نخب الإصلاح العثمانيّ أهميّة إجراء التغيير الثقافي والسّياسي في ظل الدّولة العثمانيّة، لكنّ سعيهم ذاك كان قد تزامن مع الشره الاستعماري لدول الغرب، وسعي تلك الدّول للحصول على امتيازات تُخِل بسيادة الدولة العثمانيّة، فاختلط كثيرٌ من تاريخ النضال بتاريخ المؤامرة!
وفيما تمكّنت الكماليّة التركيّة -بعد انهيار السّلطنة- من تحقيق نصر عسكري وتعيين حدود انتقالها السّياسي، وانتهجت سياسة "التغريب" على حد وصف "برنارد لويس" لتحقيق انتقالها الثّقافي؛ فإنّ الثورة العربية الكبرى فشلت في إرغام إنكلترا على الوفاء باتفاقها مع الشريف حسين على حدود الدّولة العربيّة، فاحتلتنا إنكلترا وفرنسا، ولم يخرج الاحتلال إلّا بعد تعيين حدودنا السّياسيّة، وعقودنا الاجتماعيّة المرهونة بتعهّدات المنتدبين بوعد بلفور!
بعد رحيله ترك الاستعمار خلفه أسئلة من نحو: هل حقّقنا الانتقال السّياسي بناء على: سيادة الفرد، وسلطته، واستقلاله وصولاً إلى سيادة واستقلال الدولة السّياسيّة، أم أنّ الاستقلال الذي حصلنا عليه، بعد انسحاب المحتلّين، استقلال منقوص!؟
وهل حقّقنا الانتقال الثقافي -من الوعي القديم عن الخير المطلق- فأنتجنا مفاهيمنا عن "الخير المدني" وها نحن نمارسها، أم أنّنا نعيش الاحتلال الثّقافي، ومفاهيم الغرب عن المدنيّة؟
إذ كان علينا -نحن السوريين- في الدولة والوعي الحديثين، أن لا نرى الحدود السّياسيّة بيننا وبين الفلسطينيين كارثةً ارتكبها الاستعمار، وأضرّت بتصوراتنا عن خيرنا المدني، بل أن نرى تلك الحدود كإجراء سياسيّ لحماية خيرنا المدني؛ كان علينا أن نتنكّر لذواتنا وأن نرى بعيون غربيّة، وأن نتّهم قصورنا الاقتصادي والثّقافي كي لا نشعر بالتّناقض!
ولعلّ الفصل بين تصوّراتنا نحن -السوريين والأردنيين واللبنانيين والفلسطينيين- عن خيرنا المدني، وبين تعيينات "المُحَرّرين النّبلاء" لحدودنا وطبيعة انتقالنا السّياسي من نمط الحقبة العثمانيّة إلى دولة الحداثة -لعلّ ذلك الفصل قد أسّس لتناقض، سيستمرّ لاحقاً، بين مصالحنا المدنيّة -نحن العامّة- وبين طبيعة وغاية العمل السّياسي، بوصف الأخير إنّما يتمثّل بالسّعي للوصول إلى السّلطة فحسب، في حين ظلّت "السّلطة" مفهوماً غير معنيّ بالخير المطلق -في ما يُفترض أنّها دولة الحداثة- لكنّه أيضاً غير معني بخيرنا المدني!
في النضال الوطني لمقارعة الاستعمار والإمبرياليّة!
لم يكن نضال الأحزاب الإيديلوجيّة الماركسيّة -والبعث منها- ليقرأ كارثة احتلال فلسطين من زاوية الخير المدني المهدور، بل إنّ الحقوق المدنيّة -بحسب تلك الإيدلوجيا- ما هي إلّا خديعة يراود الاستعمار بها مجتمعاتنا، ومن ثمّ فقد توازت مقارعة الاستعمار مع "الفصل" بين العمل السّياسي والمسألة المدنيّة، فنَتَجَ خطابُ استبداد مركّب، حصر ممارسة السّياسة على النّخب الراغبة في الوصول إلى السّلطة، ثم وصل البعث إلى تلك السّلطة واحتكرها، وظل على عامّة السّوريين أن يجلدوا رغباتهم بالحصول على "علبة محارم، أو سمنة" فالنعيم المدني خدعة استعماريّة، في حين أنّ استبداد "السّلطة: المستمدّة من غيبي/ أرضي" هو الطريقة المُثلى لـِ "تحرير فلسطين"!
ثورة حريّة أم عمالة؟!
حين يكون خطاب الاستبداد مؤسّساً، فتدّعي السلطة تمثيل الخير الغيبي؛ فلعلّ معيارَ التمييز بين ما هو وطني وبين ما هو عمالة غيرُ متوفّر في المؤسّستين الرّسميّتين: الثقافية والسياسيّة، فتلك المؤسّسة الرسمية ستنسِب أيّ حراك خارج أطرها إلى المؤامرة، لكنّ المعيار الإنساني ظلّ متوفّراً في ضمير العامّة التي توصّلت إلى أنّ "إلي بيقتل شعبو خاين"، فثارت عامّة السّوريين -لا نخبهم- عام 2011 على تناقض نمط الفصل بين السّياسي والمدني، كما نزعم في هذه المقالة.
لماذا انتصر الأسد؟
لعلّ الفصل بين الخير المدني وبين العمل السّياسي يمنح المستبد شجاعة فائقة، إذ بإمكانه التحالف مع الإرهاب، واستجلاب الميليشيات الطّائفيّة، وتسليم جزء من أرض الشّعب لحزب الـ pyd عام 2012، وقتل مئات الآلاف السّوريين وتهجّر الملايين، كممارسات سياسيّة للضغط على القرار الدّولي!
يمكن لتلك السّلطة أن "تلعب سياسة بالشّعب" فتُتاجر بالمخدّرات، وتروّج لها، لتضغط على دول الخليج، كما يمكنها أن تُجتاح إدلب لتُهدّد لتركيا بالّلاجئين، ويمكنها أن تعترف بانتخابات "الإدارة الذّاتية الدّيمقراطيّة شرقي سوريا" لتضرّ بمصالح الأتراك، ولأنّ تلك السّلطة يمكنها أن تفارق الخير المدني للشعب فإنّ بإمكانها أن تحقيق انتصارات سياسيّة كبرى تتناسب طرداً من خسائر الشّعب!
لكن ماذا عنّا؟
قد لا يكون كلامنا معلّقاً بالغيبيّات هو الآخر إذا قلنا: كان لأصدقائنا -مجموعة أصدقاء الشعب السّوري- كما لأعدائنا -الدول الدّاعمة للنظام- مصلحة في أن لا يمتلك الثّوار قرارهم السّياسي، فتركيا متخوّفة على أمنها القومي، والغرب يريد ضمان حماية إسرائيل، وربّما مآرب أخرى!
ومنذ 2015 يجري الحديث عن "حلّ سياسي" بناء على القرار 2254، وفي سياق انتظار الحل الذي "لم ينضج بعدُ" انكفأ الصراع إلى مناطق يحكمها نظام الأسد، ومناطق أخرى تحكمها قوى أمر واقع هي الأخرى بإمكانها أن "تلعب بالشّعب" سياسة لا يفهم هدفها إلّا "النّخب النبيلة"، كأنْ تُسلِم هيئة تحرير الشّام جنوبي خط الـ M4 للنظام لتنزوي في إدلب، ثم تمارس سياسة أمنيّة على العامة، وحين يشعر ضمير العامّة بتناقضات تلك السّلطة، فإنّ السّلطة تَتّهِم أهليّة العامّة -أقل إيمانا- أقل ثوريّة. إلخ- لوعي "الخير الغيبي"!.
ورغم اختلاف سلطة الـ pyd شكلاً عن سابقتيها -نظامي الأسد والجولاني- إلّا أنّها سلطة إيديولوجيا أيضاً؛ يمكنها ارتكاب حماقة التحرّش بتركيا، ثم خوض معارك وخسارة تلك المعارك، مفارقة في ذلك كلّه مصالح العامة، ثم إن ثار ضمير العامّة على قيامها بتخفيض سعر القمح تخرجُ على العامّة ببيان تُلقي فيه اللوم على تركيا، أي من جديد تمارس دور المرشد للرأي العام، لا المسؤول أمامه!
لعلّنا لا نكون مبالغين إذا زعمنا: أنّ ظاهرة الفصل بين الخير المدني وبين العمل السّياسي قديمة قِدم نشوء الدولة السوريّة الحديثة، لكنّها اليوم -ومن وجهة نظر أحد العامّة- ظاهرة تتقاطع خلالها ممارسات قوى الأمر الواقع جميعها، ما قد يشير إلى أنّ التّعيينات السّياسيّة: الحدود والعقود الاجتماعيّة، وربّما الحروب أيضاً لا تعكس إرادة المجتمع المحلّي، ولا تمثّل مصالحه، بقدر ما قد تعكس مقدرة تلك القوى في السّيطرة على السّوريين!