لنا أن نتخيّل أن أحد مسؤولي نظام الأسد أو ضبّاطه الأمنيين الكبار أو أحد أعضاء حاشيته المقرّبين ادّعى أمام الملأ بأنه خرج عن طور الانصياع للنظام والعمل لخدمته، وأعلن استعداده للامتثال للحق، كما بدا عليه الإحساس بالذنب الممتزج بالندم والانصياع إلى صوت الضمير، ثم دعا هذا الكائن (الافتراضي) وسائل الإعلام ليتحدث على الملأ عن مثالب النظام الكبرى ويكشف للرأي العام عن حقائق في غاية الأهمية، بل هي جديرة بتقويض أركان نظام الحكم إنْ علمت بها الأطراف الدولية، ولا أحد يعلم بها إلّا من كان من الزمرة المحيطة بصناعة القرار.
وحين تهيأ لهذا الكائن أن يفعل ما يريد وتسمّر الناس أمام شاشات التلفزة ووسائل الإعلام، باغتهم بالحديث عن بعض الموظفين المفسدين في معامل الإسمنت، كما تحدث عن التزوير في الانتخابات البلدية، كما تكلم على بعض المحسوبيات في تعيين بعض المذيعين والمذيعات، ولم ينس الرجل أن يبدي تبرّمه وسخطه أثناء حديثه لتبدو عليه علائم الانفعال الضرورية من أجل الإقناع، كما لم ينس أيضاً أن يبرئ نفسه مما اتهم به غيره وذلك جرياً على عادة المنسحبين من كياناتهم أو المُبعدين منها، إلّا أن هذا المسؤول المنتفض (الافتراضي) ظل حريصاً طيلة فترة حديثه على ألّا يقترب من بنية النظام أو ماهيته الحقيقية بل ظل شديد الحرص على أن يرمي بكل الموبقات على الموظفين والمسؤولين باعتبار أن أصل المشكلة يكمن في إدارة الدولة وليس بمسؤوليها أو قادتها، كما أن الفساد مهما تراكم فإنه ينبغي ألّا يطول أو ينتقص من مشروعية الحاكم فتلك مسألة من المسائل التي لا أحد يناقش بها.
اليوم تبدو كثرة المنتفضين والثائرين من داخل كيان الائتلاف وتدفقهم على وسائل الإعلام والمنصات والندوات القائمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتماثل تماماً مع حالة ذاك الثائر الافتراضي من داخل نظام الأسد
ولنا أن نتخيّل – حينها – مقدار الخيبة التي سيُمنى بها المستمعون والمتابعون من السوريين الذين ما جعلهم يتلهفون للاستماع إلى هذا الكائن الافتراضي أو يشاهدونه سوى حالة البؤس التي استبدّت بهم نتيجة انسداد الأفق أمام السوريين، إلّا أن خيبتهم هذه قد ضاعفت من بؤسهم حين تجاهلت وجعهم الحقيقي والجذر الأساسي للمشكلة وحوّلت الأنظار نحو مسارات هامشية للمشكلة.
اليوم تبدو كثرة المنتفضين والثائرين من داخل كيان الائتلاف وتدفقهم على وسائل الإعلام والمنصات والندوات القائمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتماثل تماماً مع حالة ذاك الثائر الافتراضي من داخل نظام الأسد، وذلك من جهة أن كلا الطرفين يحاول التنصّل عن أي حديث يوحي بالشك بمشروعية الحاكم، سواء أكان الحاكم من النظام أو المعارضة، ولكن العلّة أو المعضلة الأساسية عند الطرفين هي في سوء الإدارة والتدبير فقط.
عديدة هي الشخصيات السورية التي غادرت الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في سوريا، وقد تخلّت عن عضويتها حين أدركت أن استمرار عضويتها في هذا الكيان لا ينسجم مع قناعاتها ومبادئها، ولم ترض أن تبقى شاهد زور على ممارسات تراها مشينة بحق القضية السورية، ومن هؤلاء من تحدث عن أسباب مغادرته وبيّن موقفه للآخرين بوضوح، ومنهم من اكتفى بالمغادرة بهدوء مع حرصه على عدم إبداء أو إثارة أية ردّة فعل. ولكن في مقابل ذلك نشهد هذه الأيام جملةً من المبادرات لأعضاء من الائتلاف ينتفضون وينتقدون بشدّة، ويجتهدون بأن تكون أصواتهم مسموعة من جميع السوريين لكن دون أن يغادروا الائتلاف أو يبدوا أي نية أو استعداد لمغادرته، ولعل المشكلة لا تكمن في احتجاجهم أو انتقاداتهم بحد ذاتها، بل لعلها سمة من السمات الحميدة التي افتقدها الائتلاف على مدى سنوات من تشكيله، ولكن ما هو لافت في الأمر أن هؤلاء المنتفضين أو الثائرين الجدد داخل الائتلاف لم تعلُ أصواتهم وتنضج انتقاداتهم إلّا حين باتوا مُهدّدين بالاستبعاد أو بافتقاد المنصب المراد أو المصلحة المطلوبة فقط، ودون ذلك لا مشكلة لديهم، بل يمكن التأكيد على أن هؤلاء الثائرين على نظام الائتلاف والمنتقدين لسلوكه كانوا بالأمس القريب من أشدّ المدافعين عن الممارسات ذاتها التي ينتقدونها اليوم، فما الذي جعلهم اليوم ينكرون ما دافعوا عنه بالأمس؟ علماً أن هؤلاء المنتفضين الجدد كانوا في يوم ما أصحاب مناصب رفيعة في قيادة الائتلاف، ولكنهم سكتوا آنذاك ولم تقع أنظارهم على معالم الفساد التي يرونها اليوم، فهل ثمة استحقاقات جديدة أوجبت هذا التوجه الجديد، أم هي سيرورة طبيعية لصحوة الضمير؟
لعل الأهم في الموضوع هو النظر بقليل من الإمعان إلى طبيعة الانتقادات التي يوجهها المنتفضون الجدد والتي تمثلت بالآتي:
1 – الاحتجاج على مسألة (التفويض) في عملية الانتخابات داخل الائتلاف.
2 – الجمع بين المناصب.
3 – غياب الشفافية والوضوح عما يجري في اجتماعات الائتلاف.
4 – عدم السماح لأعضاء الهيئة العامة بحضور اجتماعات الهيئة السياسية.
والحق أن الحماس الذي يتحدث به المنتفضون الائتلافيون يجعلك تظن أن هؤلاء سيتحدثون عن آفات ومثالب تضرب في بنية الائتلاف العميقة وتجعله معطوباً على الدوام، فهم – على سبيل المثال – لم يتحدثوا عن افتقاد الائتلاف – ككيان سياسي يدعي قيادة الثورة – لقراره الوطني، ووقوعه في فخ التبعية المطلقة وعدم حيازته لأيٍّ من مقوّمات الندية في التعامل مع الآخرين، وكذلك لم ينتقدوا مبدأ (التعيين الخارجي) لقياداته وأهم مفاصله، وكذلك لم ينتقدوا مسايرته لجميع محطات أستانا وعجزه السياسي حيال مجمل جوانب القضية السورية، وكذلك إخفاقه عن تحقيق أي منجز للسوريين بدءاً من الحصول على وثيقة بسيطة لأي مواطن سوري في دول اللجوء، وصولاً للقضايا الإنسانية كقضية المعتقلين وسواها، وكذلك هم لا يجرؤون - حتى - على الإشارة إلى اللوبيات أو المافيات التي تتحكم بجميع مفاصل الائتلاف وتديره كما كأنها تدير متجراً لها في إحدى البلدات.
بل ربما دفعت النوايا الحسنة بعض السوريين إلى الظن بأن أعضاء الائتلاف سيكون أشدّ ما يحرجهم، بل يعرّضهم للخجل هو عدم قدرة كيانهم على مجاراة الحراك الثوري الذي تشهده عدة مدن في الداخل السوري، وأن هذا الحرج الذي يصل إلى مرحلة العجز يمكن أن يدفعهم إلى مبادرة أخلاقية تتجسّد بالاعتذار وإعلان الاستقالة، ولكن يبدو أن الجماعة ليسوا على هذا المنحى من التفكير.
هل هذه المسائل هي حقاً ما يؤرق السوريين، أم هي بالفعل ما تؤرق أعضاء الائتلاف فقط لأنها تنعكس انعكاساً مباشراً على مصالحهم الشخصية كموظفين داخل كيان الائتلاف؟
إذاً، المشكلة برمتها لدى المنتفضين من أعضاء الائتلاف لا تكمن في خلل بنيوي داخل هذا الكيان ولا في قرار مُصادر ولا في ارتهان كلّي للآخر الخارجي، وليس كذلك في حالة انفصام تام أو قطيعة مع الجمهور العام للسوريين، ولا على سلوك سياسي كانت له تداعيات كارثية على حياة السوريين، وإنما فقط في سوء الإدارة، واحتكار المناصب أو الوظائف من جانب البعض، ومبدأ التفويض في الانتخابات وووو، فهل هذه المسائل هي حقاً ما يؤرق السوريين، أم هي بالفعل ما تؤرق أعضاء الائتلاف فقط لأنها تنعكس انعكاساً مباشراً على مصالحهم الشخصية كموظفين داخل كيان الائتلاف؟ وبالتالي أليس من حق السوريين أن يشعروا بالخيبة والإحباط حيال المطالب القزمة لأعضاء الائتلاف المنتفضين، كما شعر غيرهم من السوريين بالخيبة ذاتها من الانتفاضة (الافتراضية) لأحد مسؤولي نظام الأسد؟