لعله بات من المُسلَّم به لدى شريحة واسعة من السوريين، أن افتقاد الساحة السورية إلى أحزاب سياسية وازنة لها امتداداتها الشعبية العميقة، وتأثيرها المباشر على الرأي العام السوري، لهو أمر ذو تداعياتٍ شديدة الخطورة على راهن القضية السورية، ولعل في طليعة تلك التداعيات هو غياب قيادة سياسية للثورة، تحظى بإجماع نسبي للسوريين، تعبر عن تطلعاتهم، وتسعى إلى أن تكون المصلحة الوطنية هي البوصلة الموجهة لأي حراك سياسي سوري سواء في الوسط الداخلي أو الإقليمي أو الدولي، بل ربما يرى كثيرون أن تعدّد الولاءات الإقليمية والجهوية داخل كيانات المعارضة إنما يعود إلى غياب العقد الجامع لإرادة السوريين، الأمر الذي أدى إلى افتقاد القرار الوطني، وبالتالي بات زمام القضية السورية بيد الأوصياء الدوليين.
تقتضي حالة الفقد السياسي أن يكون للسوريين توجّهٌ نحو استدراك ما فاتهم، من جهة العمل على إيجاد أطر سياسية تكون ناظمة لمجمل حراكهم الوطني، إلّا أن الحالة الراهنة تشهد ما هو مخالف لهذا التوجه، وأعني بذلك حالةً مقابلة يحكمها عزوف عام عن التعاطي مع الحالات الحزبية، بل ربما واجه السوريون أيّ حالة حزبية ناشئة بمزيد من اللامبالاة، إن لم نقل بالاستخفاف المبطن، يعكس إلى حدّ بعيد، غياب ثقافة أو مفهوم ( الأحزاب ) عن المشهد السوري، وذلك على خلاف البلدان الأخرى التي شهدت ثورات الربيع العربي. فما بواعث هذا التناقض بين الحاجة إلى الأطر السياسية الفاعلة وبين النفور الشعبي منها في الآن ذاته؟
لن نتوقف طويلاً للحديث عن الآثار التي تركتها عقود من الاستبداد، وما تركته من أثر كبير على تجفيف السياسة في المجتمع السوري، إذ إن هذا الأمر بات من المسلمات، لكن ما يجدر التوقف عنده هو العوامل الذاتية التي حالت، وما تزال، دون التعاطي الجدّي مع مسألة التأطير السياسي، أو العمل الجمعي في السياسة، موازاة مع تبلور ظاهرة النزوع نحو ( الاستقلالية) التي باتت تعكس نزوعاً نفسياً لدى السوريين أكثر مما تجسّد رغبة في العمل السياسي المستقل، ذلك أن التأمّل في مصطلح ( مستقل) يُظهر بوضوح رغبة دفينة في غالب الأحيان بتحاشي الاقتراب من الأحزاب، أو أي إطار سياسي آخر، ولعل هذا التحاشي يعود في مجمل الحالات إلى إرث كبير من الخوف، قد ورثه السوريون جرّاء ما مارسه نظام الأسد على حياتهم المجتمعية بشكل عام طيلة خمسة عقود من الزمن. ولئن كان أي نشاط سياسي في سوريا مناوئ لنظام الحكم يُعدّ تهمةً شديدة الخطورة، فبالمقابل تبدو جملة ( مالي علاقة بأي حزب) هي العبارة التي أول ما يتلفظ بها المواطن السوري لاتقاء اتهام السلطة، بل ربما كان الشعور الدائم للمواطن بأنه متهم ، قد عزز في اللاوعي الجمعي للسوريين حالة من الريبة والخوف في آن معاً حيال أي عمل جمعي سياسي. ولئن كانت ثورة آذار 2011 قد نجحت في كسر جدار الخوف وأزالت الكوابح التي كانت تحول دون صيحة السوريين للمطالبة بحقوقهم، إلّا أن هذا لا يعني أن الذاكرة السورية أو اللاوعي الجمعي للسوريين بات خالياً بالمطلق من رواسب الإرث النفسي الذي راكمه نظام الأسد طيلة عقود مضت، لذلك نجد أن عبارات من مثل (أنا مالي علاقة – أنا مستقل إلخ ) إنما تعبر عن دفاع مسبق في مواجهة تهمة افتراضية في أحيان كثيرة.
ثمة عامل آخر يمكن أن يكون له دور هام في تنحية الاهتمام العام بالعمل السياسي في سوريا، ويتجلى في عدم وجود مُنجز حزبي سياسي أنتجته أحزاب المعارضة التقليدية طيلة حكم الأسدين، فضلاً عن أن تلك الأحزاب التقليدية لم تستطع أن تثبت حضوراً متميّزا في بداية الحراك الثوري إبان انطلاقة الثورة، وكذلك استمرّ عقمها عن العطاء في مرحلتي ( المجلس الوطني السوري – الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة)، مما جعل كثيرين لا يعوّلون على أي مُنجز حزبي في الوقت الراهن، إلّا أن هذا الحكم على الأحزاب التقليدية، وإن كان لا يخلو من صواب، إلّا أنه حكمٌ ناقصٌ على أية حال، إذ إنه يغفل تماماً طبيعة الظروف الأمنية التي أحاطت بعمل المعارضة التقليدية، فضلاً عن ضراوة البطش الذي كانت تكيله السلطة لتلك الأحزاب، فالحزب الذي لا تتاح فرصة اللقاء لثلاثة من أعضائه إلّا باجتياز مجازفة شديدة، والحزب الذي لا يمكنه على الإطلاق الالتقاء بحاضنته أو جماهيره، وكذلك الحزب الذي لا يمكنه إيصال خطابه إلى المواطنين إلّا من خلال منشور ورقي، تليه حملة أمنية في اليوم التالي، تطول الأخضر واليابس، ولعل الأنكى من ذلك كلّه، أنه لم تكن ثمة حلول وسطى لدى الجهات الأمنية لنظام الأسد، حيال من يتورط بالسياسة، فإما التصفية الجسدية، وإما السجن الطويل الذي ربما امتد إلى أكثر من عقد من الزمن، وفي ظل ظروف كهذه، ربما يصح القول : إن شهداء ومعتقلي الأحزاب التقليدية كانوا أقرب إلى القرابين على مذبح الحرية، وليسوا مُقَصّرين وفاقدي أيّ عطاء فقط. ولئن كان صحيحاً عدم قدرتهم على تحقيق أي مُنجز مادّي ملموس على مستوى التأثير في سلوك السلطة، إلّا أن منطق الإنصاف يقتضي الإشارة إلى صمود أسطوري لكثيرٍ من المعتقلين، في ظل موازين قوى هي لصالح النظام بالمطلق، وصمود هؤلاء ينطوي على قيمة رمزية كبيرة، لا تعني صاحبها فقط، بقدر ما تجسّد جانباً من الرفض الشعبي – وإن على مستوى محدد – لنظام الطغيان والاستبداد، إذ شهدت السجون السورية – على امتداد أربعة عقود من الزمن ( 1970 – 2010 ) وكذلك ساحات المحاكم الميدانية الاستثنائية، مواجهات عنيفة بين المعتقلين والسلطة - وربما احتاج هذا الأمر إلى حيّز آخر للكلام - تصلح أن تغدو إرثاً نضالياً وطنياً لجميع طلاب الحرية في سورية المستقبل.
بعد انطلاقة ثورة آذار 2011 كان الرهان، وما يزال قائماً، على ظهور أحزاب سورية جديدة، تستفيد من خبرات وتجارب الماضي، وتؤسس بناها على معطيات جديدة ،متجاوزةً الإرث الإيديولوجي برواكمه البائدة، غيرَ مستَلبةٍ لما شاخ من أفكار وتصورات، ومستلهمةً قيم الحياة الجديدة، وساعية في الوقت ذاته لتأسيس مفاهيم متجددة للوطنية، تنهض على المصالح المشتركة للمجتمع، وتلبي حاجاته الأساسية في العيش الكريم والحفاظ على الحريات بكافة أشكالها.
ما يمكن ملاحظته في المشهد الراهن من تجارب غير ناضجة في بناء أحزاب وتجمعات سياسية، وكذلك ما يمكن الوقوف عليه من حالات أخرى تتشظى بعد إنشائها بفترة قصيرة، فضلاً عن الوفرة الطافية في التشكيلات التي تعج وسائل التواصل المختلفة بها، تبدو جميعها في سياقها الطبيعي، بل إن ما نلحظه من تعثّر، لم يكن بدعةً، بل ربما يبدو في سياقه الطبيعي، نظراً لحالة لما تشهده الحالة السورية من خلوٍّ شبه كامل لمقوّمات العمل الحزبي، ولعل في طليعة تلك المقوّمات، عامل الأرض، أو حيازة الجغرافية، ولنا أن نتخيّل أن أحزاباً بالعشرات، وربما المئات، تتشكل خارج الأرض السورية، أي أنها تولد فاقدة لحاضنتها الشعبية، ولفضائها الطبيعي الذي يجب أن تعمل فيه، فضلاً عن حالة الشتات وتعدد المنافي التي يتوزع فيها السوريون.
ما هو مؤكَّد، أن بناء حالة حزبية جديدة لدى السوريين ليس بالأمر اليسير، لغياب الحوامل الأساسية للبناء المنشود، والاعتماد على الرغبات الكامنة في النفوس، والقائمة على النوايا الحسنة، بقدر ما تبدو ضرورية، إلّا أنها تبدو فاقدة لأية قيمة ما لم تكن مقرونة بعمل جدّي ومضاعف، لترويض الذات أولاً، وجعلها تخرج من إطار الرؤية الذاتية الضيقة، إلى الفضاء الوطني العام.