حدثت الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك بين 1992 و1995 بعد تفكك دول المنظومة "الاشتراكية" التي أرادت إدماج الإثنيات والقوميات المختلفة تحت "مواطنة" جديدة أيديولوجية الطابع، لكن طابعها القهري كان أحد الأسباب التي أودى بها في النهاية بعد سبعين عاماً، إضافة لسعي الغرب "الرأسمالي" الديمقراطي للخلاص من خصمه ومنافسه الأيديولوجي، الذي كسب المعركة في النهاية، وربما من أهم الأسباب في كسبها عدا عن ديناميكية النظام الرأسمالي الحر في الغرب، هو سعي المنظومة للإدماج القهري لقوميات وإثنيات عديدة والإصرار على محوها من ذاكرة الناس، فكان ما كان، ومن أكثر المناطق تفجراً ما حدث في منطقة البلقان، وتحديداً في البوسنة والهرسك، التي كانت جزءاً من يوغسلافيا السابقة، والتي تشظت إلى ستة دول أو دويلات وفق أسس إثنية ودينية (مذهبية) لا تزال آثارها واضحةحتى اليوم.
في سوريا، وبعد أربعين عاماً على حكم العائلة الأسدية القائم على كتم الأنفاس بطريقة مكّنته من تفتيت المجتمع السوري وإعادة هندسته بما يخدم استمرارية حكمه، نزل السوريون إلى الشوارع مطالبين بالحدود الدنيا من شروط الحياة: الحرية والكرامة كبديل لنمط "الحياة المفروضة" واستمراريتها في عبارات "كنا عايشين" التي تقوم على تغييب أهم شرط من شروط الإنسانية. ونتيجة لمواجهة النظام للتظاهرات السلمية بطريقة إبادية سواء وفق الموقع أو الانتماء الإثني والديني، أدخل البلاد في نفق لا يعلم مداه إلا الله، حيث تدخلت قوى عديدة في سورية استطاعت أن تحوّل انتفاضة السوريين إلى حرب وكلاء بعد أن رسخت وجودهم في مناطق معينة تبعاً لانتماءات عرقية أو دينية، فكان أن تحولت سوريا إلى "كيانات" متقاتلة ذات حدود وجيوش وقوات شرطة وعملات ومناهج تعليمية مختلفة وغيره، لا ينقصها سوى الاعتراف الدولي لتكريسها رسمياً.
أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها نتيجة استفتاء في آذار 1992 عقب تفكك الاتحاد اليوغسلافي ، على مساحة نحو 50 ألف كم مربع وسكان بنحو أربع ملايين، ونتيجة عمليات الإدماج القسرية للسكان التي كانت متبعة أيام يوغسلافيا، فهي تتشكل من نحو (55) في المئة من البوشناق (المسلمين)، و30 في المئة من الصرب و15 في المئة من الكروات، وبعد شهر من إعلان الاستقلال بدأت الحرب التي شنها الصرب أولاً وحصدت أرواح نحو المئة ألف، وهجرت نحو مليوني شخص عاد منهم نحو 40 في المئة، وتعرضت العاصمة لحصار دام ثلاثة أعوام وعشرة أشهر،مارست فيه القوات الصربية وميليشياتها التعذيب والتجويع والقتل والمجازر (مجزرة سربرنيتسا، قتل فيها نحو 8 آلاف شخص، رغم وجود قوات الأطلسي)، إلى أن أجبرت الولايات المتحدة الأطراف الثلاثة على توقيع اتفاق في دايتون 1995، وتأسيس اتحاد البوسنة والهرسك بكياناته الثلاثة وفق أسس تجلب السلام من دون الاستقرار، أي تترك النار تحت الرماد.
في سوريا، تدخلت قوى عديدة مع كل الأطراف، وحولت قضية السوريين إلى قضية تصارع إقليمي ودولي، لكن تصارع على البارد من خلال الوكلاء من دون اللجوء تجنياً لمواجهات مباشرة، لكن هذا الصراع تجسد من خلال تقسيم سوريا عملياً براً وجواً إلى مناطق نفوذ، يلعب فيها الأطراف الداعمة الدور الرئيسي في تقرير مصير السكان، ويؤدي الوكلاء دور الخادم بعلاقته مع السيد، يتمتع السيد في تلك العلاقة بإمكانية التنصل من أي مسؤولية عند الضرورة من خلال رميها على الوكيل، وبالطبع للوكيل صلاحيات وامتيازات سلطوية تجاه المحكومين، فهناك الرايات الملونة وقوات الأمن وشرطة المراسم والسجون أيضاً، أما أكثر الأمور خطورة في تلك المناطق فهو تكريس الخندقة القائمة على أسس عرقية ودينية ومذهبية، خندقة تصل حد المطالبة بإبادة الآخر، وأكثر البارعين في تلك الممارسات هم قوات النظام وميليشيات إيران الملالي.
في نهاية عام 1995، تكون بالقوة إلى حد كبير اتحاد البوسنة والهرسك من كيانات ثلاث تمثل إثنيات ثلاث: البوشناق (المسلمين) والصرب (الأرثوذكس) والكروات (الكاثوليك)، وبعد ثلاثين عاماً تقريباً، ما يزال المسلمون يشيرون إلى أنفسهم بأنهم البوسنيون، ويشار إلى الصرب بأنهم الأرثوذكس، وإلى الكروات بالكاثوليك، وما تزال الحدود واضحة بين تلك الكيانات والجماعات حتى في المدينة الواحدة، كما يعد الصرب أنفسهم بأنهم امتداد لجمهورية صربيا، وبأنهم أصحاب الأرض، مطلقين على البوسنيين (المسلمين) عبارات بصيغة مهينة على أنهم بقايا العثمانيين، في حين أن الكروات يعتبرون أنفسهم جزءا من الغرب الأوروبي، خاصة بعد إدخال كرواتيا إلى منظومته، بينما ترك البوسنة والهرسك وحتى الصرب على قائمة الانتظار. وعلى المستوى السياسي، هناك هيئة رئاسة من الأطراف الثلاث تتناوب كل ثمانية أشهر خلال فترة الأربعة أعوام، وكما عبر أحد المواطنين البوسنيين عن هذه الحال ساخراً: نحن ثلاثة ملايين بثلاثة رؤساء!
في سوريا، ما يزال التوافق أو التسوية بعيدة، رغم المحاولات الأخيرة التي جرت سواء من بعض الدول العربية بغاية إبعاد النظام عن إيران وإعادته إلى "الحضن" العربي (أي سر يكمن وراء الولع بالحضن من الطغاة)، والخلاص من غمر النظام للمنطقة بالمخدرات، ومؤخراً المحاولات الجارية من تركيا بالتنسيق مع بعض الدول العربية وتشجيع ورعاية من روسيا لإعادة العلاقات مع نظام الأسد، التي تتمحور حول أسباب أمنية في جوهرها، بينما يتمترس النظام وراء مطالبه بالسيادة على كامل أراضي سوريا، المطالب التي لا يمتلك أي قدرة على تحقيقها، فعدد الميليشيات في مناطق سيطرته كبيرة، عدا عن قوات روسيا وإيران الرسمية، تلك القوات التي لا تأبه لقوات النظام، ناهيك عن تجوالات إسرائيل الدورية وقصفها للمناطق التي تريد، وحتى لغرف النوم..، ويبدو أن المحاولات التركية لن تحقق أكثر من المحاولات العربية من قبلها ما لم تقترن بتوافق أميركي روسي منتظر.
كان تدخل الغرب والولايات المتحدة عام 1995 في البلقان مدفوعاً بعوامل عدة، أهمها الجوار الجغرافي، والاشتراك في الدين، والخوف من انتقال الاضطرابات والقتال نحو الغرب خاصة أن تلك المنطقة المحيطة بالبوسنة والهرسك تعج بالأقليات (الهنغارية والنمساوية والألمانية وغيرها) من دون نسيان أن الشرارة الأولى للحرب العالمية الأولى انطلقت من سراييفو بعد شهر من اغتيال فرانز فريناند (ولي عهد النمسا) وزوجته في حزيران 1914 من قبل شاب صربي في سراييفو، ما يزال تمثاله منتشراً في بلغراد وشرق سراييفو، أما غايات الغرب ممثلاً بالأطلسي فهي الضغط على روسيا أولاً كخصم تاريخي واستراتيجي بغض النظر عن نظام الحكم فيه، وتفتيت الكيانات الكبرى وخلق دويلات تقوم بمهمة الحراسة لدول الغرب المتقدم، وخاصة فيما يتعلق بقضية اللاجئين (حراسة بالأجرة)، باختصار الاستثمار في الحديقة الخلفية الجديدة.
في سوريا، لم تتوافق الأطراف بعد، لكن كل الخوف مشروع أمام السوريين، خاصة أن المفاوضات تجري بين الدول الراعية أولاً، في أن يفرض عليهم نموذج يشابه ما فرض على البوسنة والهرسك: جمهورية فدرالية بكيانات ثلاث، فالأعلام جاهزة والقوات موجودة والمخابرات والسجون والحدود والمعابر أيضاً، ناهيك عن الخطاب "الليبرالي" الذي يهيمن هذه الأيام بأن سوريا عبارة عن فسيفساء مكونة من إثنيات لا حصر لها، وأن الاتجاه الدولي نحو تفرقة الشعوب والقبائل على عكس المنطق السماوي الذي يدعو إلى التعارف والتقارب، وليس مستغرباً أن تدعو الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في سوريا إلى تشكيل "جمهورية سورية الإتحادية" شكلاً بكيانات ثلاث عملياً، إنه عالم المصالح المتوحش في ظل غياب الفاعل المحلي!