توفي جدي عام 2005 في مدينة منبج عن عمر تجاوز الـ 110 سنين بسنوات لم نتمكن من عدّها إذ لم يكن تسجيل ميلاده 1905 دقيقاً.
في طفولته وشبابه -غالبا في الفترة ما بين 1910 حتى 1920 - مرّ على المنطقة أحداث سياسيّة كبرى لكن كعادة أبناء المناطق البعيدة عن مراكز الدول الحديثة "دمشق أو أنقرة" ظلّ جيل من النّاس بعيدين عن التعليم وعن السياسة ومن ثمّ ظلّوا أقرب ما يكونون إلى طبيعتهم.
في شبابه عمل جدي تاجرا -بأموال تاجر حلبي- على خطين تجاريين: الأوّل يمتد بين "الموصل -بيروت"، والثاني بين "الحجاز – عنتاب" وفي مجمل رواياته لنا -نحن أحفاده- عن تلك المرحلة لم يكن جدي يعرف أنّه كان يخترق مساحة ستصبح بعد أعوام قليلة خمس دول اسمها: لبنان- الأردن- والسعوديّة- العراق- وتركيا!
والدة جدّتي كانت تركيّة في حين جدتي كجدّي كلاهما من أصول عربيّة؛ وكان كلاهما في أواخر حياتهما حين يريدان الحديث بأمر لا يرغبان أن يعرفه أحفادهما كانا يتحدثان باللغة التركيّة التي تعلمتها جدتي من والدتها أما جدي فأتقنها حين عاش بعنتاب ثلاث أو أربع سنوات ليتابع تجارته ويجمع مهر جدّتي!
يضطر "غريب" إلى ترك قريته والذهاب إلى المدينة ليجمع مهر حبيبته، وتطول الأيام فتشتاق الحبيبة إلى حبيبها؛ ويحدث أنّ يمرّ بالقرية بائع متجوّل عرفت الحبيبة أنه سيتّجه لاحقاً إلى المدينة فطلبت إليه حمل رسالة لحبيبها!
أذكر من رواياته رحمه الله: "عنتاب شارع طويل من الخانات "المحالّ" على يمينك دبس وسمن وعسل، وعلى شمالك جوز ولوز ورمّان" وهذا الوصف منطقي بالنسبة إلى تاجر كان يحمل هذي البضاعة إلى الحجاز ليعود من الحجاز بالجمال والأغنام إلى عنتاب.
في تسعينيّات القرن الماضي كان جدي قد جاوز التسعين وكنّا -أحفاده- نتحلّق حوله ليروي لنا قصة عنتابيّة طريفة تدور أحداثها بين: الحبيبة: "شيخ سنم"، وحبيبها: "غريب" وبائع متجوّل.
يضطر "غريب" إلى ترك قريته والذهاب إلى المدينة ليجمع مهر حبيبته، وتطول الأيام فتشتاق الحبيبة إلى حبيبها؛ ويحدث أن يمرّ بالقرية بائع متجوّل عرفت الحبيبة أنه سيتّجه لاحقاً إلى المدينة فطلبت إليه حمل رسالة لحبيبها!
- البائع المتجوّل: وكيف سأعرفه؟!
- شيخ سنم: ادخل إلى المقهى وارفع الكأس واسأل: من يشرب كأس شيخ سنم؟
الذي يشرب الكأس هو "غريب"!
حين وصل البائع إلى المدينة داوم على دخول المقهى كلّ مساء لتكرار السؤال ذاته: "من يشرب كأس شيخ سنم؟" وفي إحدى الليالي وقف شاب وقال: سأشربه حتى لو كان سمّا! فعرف البائع أنّه "غريب" ثمّ نقل إليه الرسالة:
Gitme garip gitme yollar çamurdur
Garip senin yüreğin taştır demirdir إلى آخر الرسالة...
كان جدي كلّما فرغ من مقطع شعري يشرحه لنا باللغة العربيّة: "يا غريب لا تذهب فتسرقك الطرقات الموحلة، وربّما نهرك- ضربك من لا يعرف قدرك؛ وثمّة لصوص في الطريق.. " حتى آخر الحكاية.
عام 2015 اضطررت للهرب من سوريا ووصلت إلى عنتاب ثم عملتُ مدرساً للغة العربية في مدارس التعليم المؤقّت للاجئين السوريين والتي ستتحوّل بعد توقيع اتفاقية بين الحكومة التركيّة والاتحاد الأوروبي عام 2016 إلى مراكز لـ "دمج اللاجئين"!
بسبب انقطاع كثير عن دارستهم نتيجة الحرب كان الأطفال السوريون خليطاً من أعمار متفاوتة بين المرحلتين التعليميّتين: الأولى والثانية؛ وكنّا نصل إلى المدرسة بعد ظهر كل يوم حيث يفرغ الطلاب الأتراك للمرحلة التعليميّة الثانية ومعلميهم من دوامهم الصّباحي؛ ولا يخلو الأمر من بعض "المشكلات" التي يمكن أن تحدث نتيجة لقاء مراهقين أتراك وسوريين وغالباً ما كنّا -نحن المدرّسين- نتدخّل لحلّ تلك المشكلات البسيطة؛ سواء أكان المدرّس سوريّا أم تركيّا.
عام 2017 ازدادت وتيرة "المشكلات" لدرجة استدعت تدخل إدارة المدرسة التركيّة؛ وفي أحد الأيام وبينما كان الطلاب الأتراك خارجين من المدرسة ونحن وأطفالنا السوريون كالعادة ننتظر خروجهم لنبدأ بالدخول: بادر عدد ملحوظ من الطلاب الأتراك بتوجيه التّحية إلينا على طريقتهم التركيّة -المصافحة بالرّأس"؛ فقدّرنا -نحن المدرسين السوريين- أنهم قد خرجوا للتو من درس توعوي ما بشأننا؛ لكن ظل بذهني سؤال كان قد وجّهه أحد الطلاب الأتراك إلي بعد مصافحتي بحرارة: هل أنت تركماني يا خوجا؟
أجبته: لا أنا عربي..
حدّث الأتراك لغتهم مع بداية عهد الجمهوريّة واليوم لم يعودوا يستخدمون كلمة " garip" التي تحمل مضموناً وصفيّاً محايداً تجاه غريب قادم من مدينة منبج فاستخدموا عوضاً عنها كلمة "Yabancı" المأخوذة من الفارسيّة؛ لكن لـ "Yaban " الفارسيّة الأصل والتي باتت تشير في اللغة التركيّة إلى "الخارج" فإنّ لها معانيَ متعددة قريبة من معنى "برّي" وإذا أردت إيصال المفهوم بشكل أدق للسوريين لعلّي أقول: إنّ معناها يشبه معنى "ضيعجي- شاوي" حين يستخدمه أبناء المدن السوريّة للحديث عن أبناء الريف؛ وهذا يشبه في جوهره خطاب الكراهية ضد اللاجئين في تركيا الذي بدأت وتيرته تتصاعد بدأ من عام 2016 إذ يرفض الكارهون اللاجئين السوريين والأفغان باعتبارهم "عرباً- غير حضاريين" لا يجيدون الكلام ولا النظام ولا حتى الطهي والسباحة!
في اللهجة العاميّة لأبناء المدن السوريّة ثمة استخدام لكلمة "عرب" للإشارة إلى غير المدني أيضا!
مؤخرا بحثت عبر الأنترنت عن قصة "غريب وشيخ سنم" فعرفت أنها أغنية تراثيّة ولها نسخ عديدة؛ ولعل تلك النّسخ نتاج قراءات متعدّدة للواقع المتغيّر خلال مئة سنة على الأقل وإسقاط تلك القراءات على النص:
النسخة -القراءة الأولى: قصة ملحميّة لا أثر فيها للهويّة القوميّة إذ "غريب وشيخ سنم" شخصيّتان يمكن أن يتمثّلهما كل إنسان وإنسانة عانى، في ظروف مشابهة، من الحب والفراق.
حين لم تكن للغة هويّة قوميّة أو حضاريّة – بل كانت أداة تواصل- كان جدّي وجدّتي، اللذان لا يجيدان القراءة ولا الكتابة، يتحدثان باللغة التركيّة ببساطة؛ ولست أشك في أنّ أقرانهم من الترك كانوا يتحدثون العربية أو غيرها من اللغات الجارة بالطريقة ذاتها
النسخة -القراءة الثّانية: نسخة يقدّم لها المغنّون بكلام عن الوطن والوطنيّة.
النسخة الثالثة: يؤدّيها مغنّون ومغنيّات شباب ويضيفون إليها كلمات ومعاني يمكن أن تكون عالميّة.
ليس من العسير وعي أنّ القراءتين الأوّلى والثالثة يمكن أن تناسبا سيروراتنا جميعاً: عرباً وكرداً وتركاً وفرساً وسرياناً وكلداناً وآشوريين ولو شئنا أن نعدّ طوائف وأديان وأعراق وثقافات منطقتنا في الشرق الأوسط لاحتجنا لأكثر من مقالة فقط لنعدّد أسماء ذلك التنوّع والتداخل بين الهويّات؛ في حين يمكن أن تناسب القراءة الثانية شعبا واحدا فقط.
حين لم تكن للغة هويّة قوميّة أو حضاريّة – بل كانت أداة تواصل- كان جدّي وجدّتي، اللذان لا يجيدان القراءة ولا الكتابة، يتحدثان باللغة التركيّة ببساطة؛ ولست أشك في أنّ أقرانهم من الترك كانوا يتحدثون العربية أو غيرها من اللغات الجارة بالطريقة ذاتها من دون خضوع أي منهم إلى دورة اندماج داخل هويّة الآخر ليقبله هذا الـ "آخر" مساوياً له؛ إذ الجميع كان يعي المساواة قبل الخوض في أي تفصيل لغوي أو تجاري لاحق.. والمثير للدهشة أنّ ذلك -إن صحّ- فلعلّه يشير إلى أنّ ما كنّا نعتبرهم غير حضاريين كانوا أكثر ليبراليّة من أعتى القوميين اليوم!