إنه يوم أسود للسوريين، علينا أن نعترف بهذا، وإن تضمن هذا الكلام تعميماً ما على كل السوريين، فبالتأكيد ثمة سوريون وجدوا مشهد (سيادته) في قمة الجامعة العربية وفي الرياض تحديداً، إعلان الانتصار الكامل على المؤامرة الكونية على سوريا وعلى (الفكر العروبي) كما تفصح سيادته وقال في مقابلة مع إحدى الإذاعات التونسية بعد لقائه بالرئيس التونسي قيس سعيد، الذي لا يخفي إعجابه بصمود "الأسد"، والذي على ما يبدو، سيكون مثله الأعلى قريباً في التعامل مع الشعب التونسي، وفي تثبيت دعائم سلطته المطلقة كزعيم وحيد وأبدي.
وحين نقول يوم أسود للسوريين (مع استثناء تجار الحرب والمستفيدين من وضع سوريا الحالي وبعض المقتنعين تماماً أن أبناءهم ماتوا دفاعاً عن وحدة الوطن لا عن كرسي سيادته)، فإننا نشمل بذلك الصامتين في قلب سوريا، وأولئك الذين يُطلق عليهم البعض اسم الرماديين، والمهجرين داخل البلاد، والمشرّدين في شوارع المدن السورية، وأولئك الذين يعيشون على أقل من الكفاف، والمحرومين من الدفء والشبع ويعانون من مختلف الأمراض، والذين يعجزون عن تأمين حليب أطفالهم، ويعجزون عن تأمين أبسط الحقوق لهم من المأكل والملبس والتعليم واللعب، وأولئك الذين فقدوا مصادر عيشهم ورزقهم وما زالوا (تحت سقف الوطن) يتلقون الذل والهوان وتركل كراماتهم بأقدام الشبيحة وأثرياء الحرب.
هو يوم أسود على جميع السوريين خارج سوريا وداخلها، فمن هم في الخارج فقدوا أي أمل بالعودة إلى الوطن (الحنون) ولو لمجرد الزيارة، ومن في الداخل ازداد اقتناعهم بأن ما يعانونه لا نهاية قريبة له، فاستقبال سيادته في (الرياض) دون تقديم أي تنازلات لصالح ولو تغيير بسيط في السياسات المعتمدة، تعني أن أتباعه (أمن وشبيحة ولصوص وعصابات متفرقة) سيزدادون شراسة ووحشية، فهم أحد أسباب إيصاله إلى الجامعة العربية بعد كل الجرائم التي ارتكبها بحق البلد.
مَن سيوقف هؤلاء بعد الآن وهم يعيشون نشوة الانتصار ويملكون المال والسلاح، أو بالأحرى يملكون السلطة وقلة الأخلاق المصاحبة لها؛ هو يوم أسود، بالأخص، لعائلات المفقودين والمغيبين والمعتقلين في السجون والمعتقلات السورية، مئات الآلاف ممن لا يعرف عن مصيرهم أي شيء، ممن قد يكونوا ضحايا التعذيب، أو سكان المقابر الجماعية، أو ما زالوا في أقبية المعتقلات، ممن فقدوا منذ عام 2011 وحتى الآن، ممن ما زالت عائلاتهم تنتظر ولو إشارة عن مصائرهم كي ينتهي انتظارهم المضني الذي لا يبدوا أن أحدا معنيا به.
إنه يوم أسود للسوريين، وإعلان هزيمة صريحة للثورة، علينا الاعتراف بذلك دون رومانسيات ثورية لم تعد مجدية، والحال فإن هذا السواد لا يخص السوريين فقط، بل يشمل كل شعوب الربيع العربي وباقي الشعوب العربية التي تعاني جميعها تقريبا من بؤس معيشي وأزمات اقتصادية واجتماعية. قمة الجامعة العربية الأخيرة هي مسمار أخير يدق في نعش الربيع العربي؛ سنكون واهمين إن قلنا غير ذلك، وسنكون واهمين أكثر إن ظننا أن ثمة شعب من الشعوب العربية قد استطاع النجاة من أثر الهزيمة، النماذج واضحة وجلية، مشهد (الزعماء العرب) في الرياض محيطين بمجرم العصر دليل واضح على مصير الشعوب العربية؛ لكن أيضاً لنكن واقعيين، هل تتحمل المنظومة السياسية السلطوية العربية فقط السبب بما حدث، أم هناك دور للشعوب في هذا المشهد المؤسف والمخيب للآمال؟!
كان يمكن للربيع العربي أن يكون بداية حقيقية للتغيير، لا تغيير الرأس الأعلى في السلطة فقط بل تغيير المنظومة الكاملة والدول العميقة بكل أدواتها، المنظومة التي اشتغلت بدأب على تكسير الهويات الوطنية الجامعة لصالح هويات دينية ومذهبية وإثنية وقومية، غالباً ما تكون تحمل في مكوناتها بذور شوفينية كارهة للمختلف ومحاربة له، هذه الهويات الضيقة تقسم المجتمعات إلى مجموعات صغيرة أو كبيرة، لا يهم، طالما هي مجموعات تعيش على الفكر القبلي الذي يغذي الإحساس بالتفوق تجاه الآخرين، ما يعني مجتمعات متعايشه سلبيا لا إيجابيا، والتعايش السلبي هو التعايش الذي يخفي تحت غطائه العام أحقادا أسطورية وفلكلورية، ومبنية علي معطيات تاريخية مزورة أو على أحراث مفبركة، تغذيها المنظومة السلطوية بأساليب خبيثة تضمن سيطرتها التامة على المجتمعات؛ وتضمن في الوقت ذاته تكريسها بوصفها الضامن الوحيد للأمان المجتمعي.
كشف الربيع العربي ركاكة هذا الأمان وكشف معه جهل الشعوب العربية بحقيقة واقعها، ورعبها من التغيير، ظهر هذا في المجموعات الكبرى التي رفضت التغيير، أو التي سارعت لمساندة البدائل رغم رداءتها، أو في الشعوب التي ساندت طغاة آخرين بحجة شعارات شعبوية غوغائية وفارغة.
ظهر هذا أيضاً في التردّي الأخلاقي لدى المعارضات السياسية التقليدية التي كان يفترض بها أن تكون حوامل للتغيير وتشتغل بناء على منهجية تختلف تماما عن منهجية الأنظمة، وتتفوق عليها قيميا وأخلاقيا ووعيا سياسيا واجتماعيا، وأن يتجلى هذا في خطابها السياسي وعلاقاتها مع المجتمع الدولي بوصفها بديلاً حداثياً عن الأنظمة الفاشلة بأدواتها المتخلفة وخطابها الوطني الركيك.
ظهر أيضاً في إصرار شعوب الربيع العربي على انحيازها للفكر القروسطي الذي لم يكن للمعارضات السياسية التقليدية دور أقل من دور الأنظمة في تكريسه عبر مهادنتها للفكر الظلامي وتحالفها معه، هذا الفكر الذي لم يكن، أصلا، ليظهر في بلادنا ومجتمعاتنا لولا تحالفه الخفي والمعلن مع الأنظمة الحاكمة، ما جعل سيطرته على الربيع العربي إنذارا بفشله وانتصارا للمنظومة السياسية القديمة الحاكمة؛ حيث تم استبدال الغايات الوطنية التغييرية من الربيع العربي ومطالب العدالة والحرية والديموقراطية والمدنية، بغايات دينية ومذهبية ورفض لأي حركة تحررية خارجة عن السائد الذي كرسته الأنظمة من قبل من يسمون أنفسهم ثوارا وطالبي تغيير.
ماذا بعد ذلك يمكن أن نقول في هذا اليوم الأسود الذي جعل من ملايين الضحايا السوريين خلال السنوات الماضية أشبه بغبار أثارته زوبعة ما؟ أظن أن الخيبة والخذلان والأسف سيجعلون صراخنا مكتوما وغضبنا وأحقادنا بمنزلة علل لا شفاء منها؛ لكن أيضا علينا أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: ما الجديد في هذا المشهد الذي يتكرر دائما بغياب هذه الشخصية أو تلك. الخطابات هي نفسها، واللغة هي نفسها، والشخصيات هي نفسها، والشعارات هي نفسها (لا يقل الحديث عن أولوية القضية الفلسطينية في الوقت الذي تتهافت فيه الأنظمة للتطبيع مع العدو الصهيوني مهزلة عن حديث مجرم العصر وجنرال الكبتاغون عن ضرورة عدم التدخل الدولي في الشؤون الداخلية وكأن روسيا وإيران وحزب الله هم من أهل البيت).
ما كان ينقص فقط هو إقرار خطة التوزيع العادل للكبتاغون السوري على الشعوب العربية، فعلى ما يبدو أن الانتصار الحقيقي هو سيطرة الكبتاغون على القرار العربي، هذا إن استخدمنا حسن النية في تحليل المشهد، أما الحقيقة فهي إنه منذ (خطة بندر) والسعي لتدمير الربيع العربي نهائياً لم يتوقّف من قبل جميع الأنظمة بوجوهها القديمة والحديثة.