يتعارض قرار واشنطن تدريب مجموعات "قوات سوريا الديمقراطية" على منظومة "أفنجر" لمواجهة بقايا "داعش" في شرقي الفرات مع العرض التركي الأخير المقدم لواشنطن حول إرسال 3 طوابير عسكرية لمحاربة ما تبقى من هذا التنظيم الإرهابي.
هل تحاول الإدارة الأميركية الانتقام لخطوة إلزامها بدعم إلغاء الانتخابات المحلية في شرقي الفرات؟ أم هي تستعد فعلاً لمواجهات محتملة مع المجموعات الإيرانية في سوريا؟ أم تخشى من تقارب وتنسيق عسكري أمني محتمل بين إيران وروسيا وتركيا في شرق الفرات، ما قد يصيب أكثر من عصفور بحجر واحد ويعطي الأطراف الثلاثة ما تريد؟
تفرح إلهام أحمد، إحدى أهم قيادات "قسد" و"الإدارة الذاتية" لشمال شرقي سوريا، برسائل وزير الدفاع التركي يشار غولار الأخيرة باتجاه النظام في دمشق، حول أن الانسحاب العسكري من شمالي سوريا يتوقف على تحريك المرحلة السياسية والدستورية الانتقالية هناك. هي تعتبر ذلك فرصة لمواصلة ملء الفراغ في شرقي سوريا. لكنها تتجاهل ما قاله وزير الخارجية التركي هاكان فيدان حول أن أنقرة جاهزة للحوار مع بشار الأسد على كل المستويات التي يريدها، وأن الهدوء الأمني القائم منذ فترة طويلة على الجبهات السورية قد يتحول إلى فرصة تهدئة سياسية.
رسائل تركية إيرانية عراقية روسية تقلق "قسد" في الساعات الأخيرة:
- العودة إلى تسيير دوريات روسية تركية مشتركة في مناطق شمال شرقي سوريا، لأول مرة منذ توقفها في أيلول 2023، ضمن إطار الاتفاق الروسي التركي الموقع في 2019، والذي ينص على تسيير دوريات مشتركة بعمق 10 كم من الحدود السورية التركية بعد عملية "نبع السلام" في المنطقة.
- تكثيف وحدات "الحشد الشعبي" العراقية المدعومة من إيران لتواجدها العسكري في مناطق الحدود العراقية السورية. في العلن قد تعني الخطوة قطع الطريق على عناصر "داعش" التي تفرج قوات "قسد" عنها في الآونة الأخيرة لزيادة الضغوط على العواصم الغربية والإقليمية، لكن الرسالة هي لـ"قسد" نفسها بعد زيارة وفد عراقي رسمي رفيع لأنقرة قبل أيام بمشاركة رئيس "هيئة الحشد الشعبي" فالح الفياض، إذ ستواجه "قسد" صعوبة في حركة التنقل على خط شرقي سوريا - السليمانية.
- تكرار "قسد" و"مسد" لمواقف سابقة تتجاهل حجم التنسيق الأمني والاقتصادي بينها وبين النظام في دمشق، معلنة أن "تركيا تسعى وتقدم يدها لدمشق على ساحة الدماء السورية (...)، هذه المصالحة وإن تمت فهي مؤامرة كبيرة ضد الشعب السوري بكل أطيافه". "أي اتفاق مع الدولة التركية هو ضد مصلحة السوريين عامةً وتكريس للتقسيم وتآمر على وحدة سوريا وشعبها". إلهام أحمد نفسها تترك النظام في دمشق أمام خيارين: إما الاعتراف بـ"الإدارة الذاتية" وحقوق الأكراد في سوريا، أو مواجهة تداعيات رفض هذا الاعتراف، مما يعني مواجهته "جداراً جديداً" في المنطقة كما تقول. "المطلوب هو قبول اللامركزية، وحقوق "الإدارة الذاتية" ضمن الدستور السوري".
تستثمر "الإدارة الذاتية" في التباعد بين أنقرة ودمشق حتى النهاية. لكن ما يقلقها أكثر هو حسابات التقارب التركي الأميركي أو احتمال حدوث تفاهمات باتجاه آخر، تركية إيرانية روسية، تدفع "قسد" ثمنها وتكون الطريق التي لا يشتهيها قطار "قسد" وهو يحاول رسم خطوط عبور وتنقل جديدة في اليابسة السورية.
تعيش سوريا أجواء ثورة منذ العام 2011. لكن ثورة إلهام أحمد في شرقي الفرات وأهدافها لا علاقة لها من قريب أو بعيد بثورة الشعب السوري. هي استغلال فرصة ما يجري لصناعة وفرض حالة جديدة على السوريين بدعم وتشجيع أميركي، تماماً كما حدث في شمالي العراق. تريد أحمد تجيير التطورات الإقليمية المتلاحقة إلى فرصة جديدة لتحقيق هذه الأهداف. اللاعب الإسرائيلي قد يكون الفرصة التي تبحث عنها هذه المرة.
حديث أحمد و"قسد" عن "خطر تنظيم داعش الذي لا يزال نشطًا في المنطقة ويشن الهجمات فيها"، ودعوة الغرب لتقديم الدعم والمساعدة في النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية لهزيمة التنظيم، يتعارض مع خطوات إطلاق سراح بعض كوادر "داعش"، الذي يهدف لتوفير الغطاء السياسي الإقليمي والدولي للاعتراف بواقع "قسد" الجديد. الدليل هو مواصلة "قسد" التواصل مع النظام في مكان، ورفض عروضه السياسية الأخيرة بوساطة روسية في مكان آخر، مثل مشاركتها في الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل أسابيع ومنحها حصة وكتلة برلمانية مستقلة.
ما يقلق إلهام أحمد، التي كثفت من نشاطاتها وتصريحاتها في الآونة الأخيرة، هو سيناريو حدوث المزيد من التقارب بين أنقرة وبغداد من جهة وبين أنقرة والنظام في دمشق من جهة أخرى بدعم روسي صيني إيراني، مما قد يطيح بكل جهود وخطط الانفصال والحكم الذاتي في شرق الفرات
تكثيف الزيارات وتوقيع مزيد من الاتفاقيات العسكرية والأمنية والاقتصادية بين تركيا والعراق يزعج البعض. محور "قسد – السليمانية" الذي ترعاه وتديره واشنطن هو المنزعج الأول طبعاً. لكن الذي سيزعج أكثر هو وصول المحادثات بين أنقرة والنظام في دمشق بدعم إقليمي إلى تفاهمات أمنية بعد خطوة فتح معبر "أبو الزندين" والذي تنتظر أنقرة ما يقابله من هدية ميدانية.
ما يقلق إلهام أحمد، التي كثفت من نشاطاتها وتصريحاتها في الآونة الأخيرة، هو سيناريو حدوث المزيد من التقارب بين أنقرة وبغداد من جهة وبين أنقرة والنظام في دمشق من جهة أخرى بدعم روسي صيني إيراني، مما قد يطيح بكل جهود وخطط الانفصال والحكم الذاتي في شرق الفرات. عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قد تقطع الطريق على هذا السيناريو، مقابل تعهدات ومواقف حقيقية تريدها أنقرة من القيادة الأميركية الجديدة، ويكون مشروع "قسد - السليمانية" هو الضحية فيه.
انفجار الوضع بين تل أبيب وطهران على جبهة جنوبي لبنان وانتقاله إلى جبهات أخرى هو بين الاحتمالات أيضاً. ارتدادات ما قد يحدث بشقه السياسي قد تعرض ما بنته قيادات "قسد" في الأعوام الأخيرة للانهيار، إلا إذا انتصرت إسرائيل في المواجهة. هل تسمح عواصم ودول المنطقة بهزيمة إيران لصالح التمدد الإسرائيلي في الإقليم؟
منظومة "أفنجر" قد تتحول إلى سبب إضافي يحرك القوات التركية وشركائها وحلفائها القدماء والجدد ويمنحها الذريعة الكافية لحسم ورقة "داعش" التي تحاول إلهام أحمد تحريكها لكسب العطف الغربي. ورطة "قسد" في منصات الصواريخ ليست تركية فقط، بل إيرانية روسية وسورية وعراقية وصينية ربما. على إلهام أحمد أن تبذل جهداً إضافياً لإقناع كثيرين في الإقليم أن لا علاقة لها بما تحاول واشنطن فعله في شرقي الفرات، وأن ما تريده تل أبيب لا يعنيها من قريب أو بعيد، وأن هدفها هو مواجهة مسيرات ومقاتلات "داعش" التي لن تظهر يوماً بل إن المسيرات التركية هي الأقرب للظهور.
اقتنعت إلهام أحمد أيضاً بفكرة التخلي عن الانتخابات المحلية في المناطق السورية التي يسيطر عليها "قسد"، رغم كل تصريحات ومواقف التحدي والتمسك بتنفيذ هذه الخطوة. تردد قيادات "قسد" أنها عملية تأجيل وليس إلغاء، تم تعويضها مؤقتاً بتوفير المزيد من الغطاء العسكري والسياسي الأميركي. ما تعول عليه إلهام أحمد وشريكها في السليمانية هو تسريع الحوار مع تل أبيب التي تتطلع صوب سياسة إقليمية جديدة باتجاه سوريا والعراق، ويكون الملف الكردي بشقه الإقليمي في مقدمة مسائل التنسيق والتعاون بشأنها.
خسارة إيران للمعركة في مواجهة إسرائيل قد تضعف مواقف تركيا والعواصم العربية والنظام في دمشق وبغداد والنفوذ الروسي والصيني. سيناريو عدم توسيع رقعة الحرب في المنطقة بقرار إيراني قد يكون سببه احتمالات ولادة ارتدادات ونتائج تخرج طهران خاسرة على كل الجبهات. من يقنع إيران بحسم الأمور دون انفجار إقليمي واسع هو ليس تركيا وروسيا والصين أو أميركا، بل أحلام "قسد" والسليمانية الإسرائيلية.