في سابقة هي الأولى من نوعها، أقدمت بلدية إحدى المدن الألمانية في ولاية نيدرزاكسن على إقامة دعوى قضائية ضدّ عدّة عوائل لاجئة من بلدان مختلفة، وذلك بهدف إخلائها من البيوت المؤجّرة لها من قبل البلدية ذاتها بموجب عقود إيجارِ غير محددة المدّة. لم تعمد البلدية بالطبع لاتخاذ أيّ إجراء إداري بالإخلاء، كما تقوم به في العادة كثير من الجهات الرسمية في دول العالم الثالث، وهذه نقطةٌ تدلّ على مستوى فصل السلطات وسيادة القانون في هذا البلد. وبغضّ النظر عمّا ستكون عليه النتيجة النهائية للقضية أمام محكمة الاستئناف، فإنّ ما رافق القضية من تفاعل مجتمعي هو الذي يثير الانتباه، وهو الذي سيكون موضوع مقالتنا هذه، بهدف تسليط الضوء على حقوق الإنسان، وبالأخصّ تطبيقاتها العملية وتجذّر مفاهيمها في المجتمعات الغربية.
تقوم دعوى البلدية على أساسٍ بسيط، هو أنّها بحاجة لهذه البيوت لإيواء لاجئين جدد قادمين من مناطق حروب ونزاعات مختلفة، وتعلل مذهبها هذا بأنّ العائلات المدعى بمواجهتها بالإخلاء قد أمضت في ألمانيا عدّة أعوام، وبالتالي أصبح أفرادها بوضع متقدّمٍ من الاندماج بحيثُ يمكّنهم من البحث عن مساكن جديدة حتى خارج نطاق أمكنة سكناهم الحالية، على عكس البلدية التي لا يمكنها تأمين مساكن للاجئين المفروزين إليها من الجهات المختصة إلا ضمن إطار حدودها الإدارية. بينما يستند دفاع العائلات إلى كثيرٍ من الأسباب الذاتية مثل اضطرار أبنائهم لنقل مدارسهم، وبالتالي فقدان أصدقائهم وتعثرهم بالدراسة، أو فقدانهم فرص العمل التي حصلوا عليها في المنطقة، أو انتزاعهم من المحيط الذي اندمجوا به واعتادوا عليه، مما سيعيدهم إلى مربّع المعاناة من جديد. كما يستند دفاعهم إلى سبب موضوعي لا يد لهم فيه هو قلّة المساكن المعروضة للإيجار، وتدنّي فرصهم في منافسة أهل البلد من المواطنين، الذين هم بطبيعة الحال مُفَضَّلُونَ عند المؤجرين لأسباب أقربها مادية من حيث مستوى الدخل، وأبعدها ثقافية مجتمعية تتعلق بعدم الرغبة بالمخاطرة مع الغرباء.
فاعل المجتمعات المحلية مع القضية، ووقوف جهات وفعاليات كثيرة منها مع هذه العائلات في مواجهة قرار بلديتهم هو ما يثير الانتباه ويحفّز على البحث في أسبابه
حتى هذه اللحظة لا جديد في الأمر، فهي حالات تحصل في كل الدنيا. لكنّ تفاعل المجتمعات المحلية مع القضية، ووقوف جهات وفعاليات كثيرة منها مع هذه العائلات في مواجهة قرار بلديتهم هو ما يثير الانتباه ويحفّز على البحث في أسبابه. فقد انشغلت شبكة النشطاء المحليين الاجتماعية بالحدث (Sozial Netzwerk) بشكل كبير، فأقامت الاجتماعات مع مجلس البلدية الاستشاري (Rathaus)، ثم مع الأحزاب المحلية، وطرحت الموضوع على الصحافة، وبدأت حملة مناصرة لهذه العائلات لتشكيل رأيٍ عامٍ مساند لها اجتماعياً، وللتأثير على صانعي القرار السياسي في المركز وليس فقط في تلك البلدية. بل وتداعى النشطاء من بلديات أخرى مجاورة، فطلبوا من رئيس اتحاد بلديات العاصمة هانوفر (Hannover Regionspräsident) عقد اجتماع علني موسّع (Hybride Ratssitzung) لمناقشة الأمر. كما واختارت شبكة النشطاء المحليين بالتنسيق مع الكنيسة أحد المحامين المتخصصين في قضايا الإيجار لتكليفه بالدفاع عن تلك العائلات، وتابعت معه مجريات التقاضي ولا تزال.
لا شكّ بأنّ لكلِّ مجتمعٍ قيمه الخاصّة به، ومنها على سبيل المثال في مجتمعاتنا العربية كرَم الضيافة، والحميّة والفزعة في الشدائد على المستويات الفردية، وهناك حسّ التضامن الجماعي المستند لأسباب دينية أو قومية أو طائفية أو عشائرية أو حتى مناطقية، فقد شاهدنا على سبيل المثال مؤخراً كيف كانت فرحة العرب من المحيط إلى الخليج بفوز منتخب المغرب على منتخب إسبانيا ومن بعده على منتخب البرتغال في فعالية كأس العالم في قطر. لكن ما يميّز المجتمعات الغربية عامّة والمجتمع الألماني خاصة هو الممارسات المنظّمة المستندة إلى قيمٍ إنسانية متجذّرة في الضمير الفردي والمجتمعي، والتي أتت عبر مناخات مستمرة من الاستقرار والديمقراطية وسيادة القانون والوفرة المادية قبل كل شيء. هذه القضايا التي يفهمها العقل الغربي عامّة، لا تتعلق فقط بالتضامن مع الغرباء أو المستضعفين أو المهاجرين أو الأقليات، بل هي في جوهرها فهمٌ متقدّم للحقوق الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، وتطبيق متزامنٌ لسيادة القانون ومنع الافتئات عليه بأي شكلٍ من الأشكال، ولو بدرجة غير محسوسة في ميزان العدالة.
يدرك أغلب الناس هنا، أقصد في الغرب، من تجاربهم المريرة التي خاضوها ودفعوا أثماناً باهظة مقابلها من حيواتهم وحرياتهم وأملاكهم، أنّ أيّ تجاوز على أيّ شخص أو فئة أو مجموعة مهما قلّ شأنه أو شأنها، سيتبعه تجاوز تالٍ على غيره ثم غيره حتى تتحوّل الديمقراطية إلى استبداد قاتل. لقد عاصر الألمان حقبة الحزب النازي الذي وصل إلى الحكم عبر الانتخابات، وسكتوا على التجاوزات التي بدأها الحزب بشكل بسيط، ثمّ تدرّج بها حتى أتى على الديمقراطية ذاتها، فحلّ الأحزاب وألغى مجلس النواب وكمّم الأفواه وأغلق الصحف والإذاعات ونشر الرعب عبر ميليشياته المسلحة ثم عبر أجهزة مخابرات الدولة والشرطة السرية ولاحقاً سرايا الموت، فكان من ضحاياه ليس اليهود فقط، بل أيضاً المرضى وضعاف البنية الجسدية وفي بعض الأحيان العجزة وكبار السنّ. ودفع الأوروبيون كلّهم ثمن هذا السكوت الألماني عن تجاوزات النازية، وبعض الشيء عن تجاوزات الفاشية والشيوعية. هذا التساهل مع خرق القانون أو محاولة استغلال ثغرة فيه، والذي يسميه الأميركيون "المنحدر الزلق" سيؤدي بالنهاية إلى تعميم التجربة بحيث يصبح ضحايا لها أولئك الذين كانوا يحسبون أنفسهم بعيدين عن مرمى النيران وغير معنيين بالأمر. لذلك يقوم المجتمع، أو على الأقل جزءٌ فاعلٌ منه، بردّة فعل استباقية على كلّ ما من شأنه أن يبني تراتبية قد تؤدي مستقبلاً لتكريس حالة شاذّة قد تضرّ بهم أو تنتقص من حقوقهم أو تسبب لهم بعض المعاناة أو الألم، ولا ينتظرون حتى يمسّهم الأمر مباشرة.
الجوهر الحقيقي للقيم البشرية هو المراكمةُ على إيجابيات من سبقنا وتركُ سلبيات إرثهم
هكذا يبدأ التضامن الإنساني من وعيٍ وإدراكٍ متقدّمين للقيم والحقوق، ويكون التركيز عبر جميع الوسائط السلمية، القانونية والسياسية والمدنية الممكنة، موجّهاً ليس على الحاضر فقط، أو على ما تراه العيون وتلمسه الأيدي، بل على المستقبل بكل احتمالاته، وعلى المتوقع، والذي يمكن أن يُبنى مستقبلاً على الحاضر. إنّ الجوهر الحقيقي للقيم البشرية هو المراكمةُ على إيجابيات من سبقنا وتركُ سلبيات إرثهم، وبهذا يتحقق على الدوام تحوّل التجارب البشرية الكمّية إلى كيوفٍ نوعية مختلفة تنقل البشر من واقع إلى آخر، وترفعهم مستوياتٍ جديدة في اجتماعهم وعيشهم ونظرتهم للحياة ذاتها، وهكذا تتجلى الحقوق في الواقع العملي عبر الوعي والضمير والتضامن، ويمارسها الناس بكل مسؤولية وبضميرٍ يقظٍ وإنسانية رفيعةٍ متقدّمة.