الوزير السابق علي باباجان "بق البحصة" أخيراً، فأعلن عن استقالته من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، مطلقاً بذلك العد العكسي لتأسيس حزب جديد. والحال أن الرأي العام التركي كان يتحدث، منذ أكثر من سنة، عن عمل بعض شخصيات الحزب التي سبق وتم تهميشها من مناصبها على تأسيس حزب جديد، أهمهم الرئيس السابق عبد الله غل ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو والوزير السابق علي باباجان. ثم اتضحت الصورة أكثر فتحدثت الكواليس عن "حزبين" محتملين، بدلاً من واحد، بالنظر إلى التنافر الكبير بين غل وداوود أوغلو على خلفية مشاركة الأخير، مع الرئيس أردوغان، في إبعاد الأول من رئاسة الحزب بعد انتهاء ولايته الرئاسية، في شهر آب 2014، ليتبوأ داوود أوغلو رئاستي الوزراء والحزب، قبل أن يجبر، بدوره، على الاستقالة في شهر أيار 2016.
إذن نحن أمام انشقاقين متوقعين من حزب العدالة والتنمية، يقودهما "الحردانون" من مؤسسي الحزب وقادته، داوود أوغلو من جهة، والثنائي باباجان – غل من جهة ثانية. وقد لوحظ ما يشبه السباق بين التيارين، في الأشهر الأخيرة، على إعلان أولوية الانشقاق. فقد نشر داوود أوغلو، في شهر أيار الفائت، ما سمي بالمانيفستو السياسي على حسابه على موقع فيسبوك، تضمن انتقادات حادة للحزب، متهماً إياه بالانحراف عن المبادئ التي تأسس عليها. كما انتقد النظام الرئاسي والعلاقة التحالفية بين "العدالة والتنمية" وحزب الحركة القومية المتشدد بقيادة دولت بهجلي. ولم يوفر، في انتقاداته، السياسة الاقتصادية والنزوع السلطوي المتفاقم، إلى آخر ما هنالك من مآخذ على الوضع القائم، يتقاطع فيها مع دعاوى المعارضة بكافة أطيافها.
وأطلق داوود أوغلو جولة قادته إلى مختلف مدن البلاد، يلتقي فيها بالجمهور ويحدثهم عن مشروعه السياسي، وإن كان، قد تجنب، إلى الآن، الإعلان عن سعيه لإنشاء حزب جديد. فهو ما زال، نظرياً، عضواً في حزب العدالة والتنمية ولم يعلن استقالته منه. وقد فسر بعض المراقبين ذلك بأنه لا يريد قطع كل الجسور مع الحزب وأردوغان، ربما طمعاً في الحصول على منصب يرضيه مقابل التخلي عن مشروع الانشقاق.
أما الثنائي باباجان وغل، فقد عملا، طوال الأشهر السابقة، بصمت، بعيداً عن وسائل الإعلام. ومن المحتمل أن تحرك داوود أوغلو السابق
يسعى باباجان، المدعوم من غل، إلى تأسيس حزب "يمين وسط" يخاطب طيفاً واسعاً من الميول الإيديولوجية
هو ما دفع باباجان إلى إعلان استقالته. وربما كان اللقاء الذي جمعه، قبل حين، بالرئيس أردوغان هو الذي أرغمه على الكشف عن نيته في تأسيس حزبه الجديد. ذكرت مصادر مطلعة على اللقاء المذكور أن باباجان قدم لأردوغان ملفاً يتضمن مآخذه على الحزب، رداً على سؤال الرئيس له عما يشاع عن نشاطه الانشقاقي، وشرح له بإيجاز أسبابه.
ويسعى باباجان، المدعوم من غل، إلى تأسيس حزب "يمين وسط" يخاطب طيفاً واسعاً من الميول الإيديولوجية، فلا يقتصر على الإسلاميين، فيما يشبه "حزب الوطن الأم" الذي أسسه الرئيس الراحل تورغوت أوزال، وضم تيارات ليبرالية وقومية وإسلامية محافظة. كما تلعب الخلفية الاقتصادية لباباجان دوراً مهماً في اجتذاب تأييد أوساط رأس المال الكبير في تركيا، ويحظى بثقة المؤسسات المالية الدولية. مقابل الميل الإسلامي الأحادي لدى أحمد داوود أوغلو.
دخل الحراك الانشقاقي مرحلة العلن، في مناخ الهزيمة الانتخابية الكبيرة للحزب في الانتخابات البلدية، بما في ذلك انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول التي تمت إعادتها في 23 من حزيران. وكان لافتاً أن قسماً من ناخبي "العدالة والتنمية" قد صوتوا، للمرة الأولى، لمرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، الأمر الذي يعني أن البيئة الاجتماعية الموالية للحزب لم تعد مضمونة الولاء، وهي مستاءة وتبحث عن بدائل، لأسباب متعددة، منها تداعيات حرب الاستئصال المستمرة التي تشنها الحكومة على حركة فتح الله غولن، وقد شملت مئات آلاف الأشخاص، اختلط فيهم المتورط والبريء. ومنها الصعوبات الاقتصادية المنذرة بأزمة كبيرة تؤثر، بصورة مباشرة، على حياة ومعيشة ملايين الأتراك. ومنها انفصال طبقة الأثرياء الجدد الذين ظهروا تحت مظلة حكم "العدالة والتنمية" المديد، عن هموم الطبقات الدنيا من مؤيدي الحزب. ومنها الاستياء من عيوب النظام الرئاسي التي ظهرت في التطبيق، وأهمها انتهاء فاعلية البرلمان وتحول مجلس الوزراء إلى مجموعة موظفين ينفذون ما يملى عليهم من رئيس الجمهورية، وهم من خارج نواب البرلمان وليسوا مسؤولين أمامهم.
وعموماً ثمة انطباع بأن الحكومة غير قادرة على إدارة الشؤون العامة كما ينبغي، وثمة فقدان للثقة آخذ بالاتساع بين الحزب وجمهوره، أظهرته الانتخابات البلدية، وينذر بتراجع مطرد لشعبيته. لذلك لا يقتصر انتقاد عيوب النظام الرئاسي على المعارضة أو على حركة الانشقاقات المتوقعة، بل يشمل أيضاً أصواتاً موالية داخل الحزب. فقد بدأ هؤلاء يحسبون حساباً لاحتمال ألا يحصل الحزب، في أول انتخابات رئاسية قادمة، على نسبة 50% +1 التي يحتاجها المرشح للفوز بكل السلطة. فليس هناك ما يضمن استمرار التحالف مع حزب الحركة القومية الذي لولاه لفشل "العدالة والتنمية" في الحصول على أكثر من نصف أصوات الناخبين. كما أن الانشقاقات المتوقعة ربما تجرف معها قسماً من نواب الحزب في البرلمان، فيفقد بذلك الغالبية المطلقة، وكذلك قسماً من ناخبي الحزب التقليديين.
فإذا أضفنا إلى هذه العوامل الداخلية، الاستياء المتصاعد من القيادة التركية وسياساتها في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ورغبة حكومات تلك الدول في رؤية وجوه جديدة بدلاً من أردوغان، اكتملت الديناميات الدافعة باتجاه التغيير السياسي، قد تثمر بعد أربع سنوات ما لم يحدث ما يستدعي إجراء انتخابات عامة ورئاسية مبكرة. وعلى سبيل المثال، إذا صح ما يشاع عن نوايا لدى أردوغان لإعادة
المرحلة المقبلة في تركيا ستشهد تغييرات كبيرة في المشهد السياسي، بما في ذلك مواجهة تحديات مصيرية كعلاقة تركيا بحلف الناتو
إطلاق مفاوضات سلام داخلي مع "العمال الكردستاني"، فإن من شأن ذلك أن ينهي التحالف مع الحزب القومي المتشدد الذي لا يستبعد، في هذه الحالة، أن يدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة. وبالنظر إلى تربص أحزاب المعارضة بانتظار فرصة الانقضاض على الحزب الحاكم، ستجد تلك الدعوة تأييداً منها.
الخلاصة أن المرحلة المقبلة في تركيا ستشهد تغييرات كبيرة في المشهد السياسي، بما في ذلك مواجهة تحديات مصيرية كعلاقة تركيا بحلف الناتو، على ضوء استلامها لمنظومة الصواريخ الروسية، والنزاع المتوقع حول التنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط، والصراع المستمر في سوريا، وتفاقم الوضع الاقتصادي، وتصاعد المعارضة الاجتماعية والسياسية.