وإنْ كان علماء الاجتماع لم يستطيعوا تحديد نشأتها، فإنهم يُقرنُون ظهورها بظهور التسلط والقهر. أتحدث هنا، فعلياً، عن فنّ الكوميديا الساخرة، الناقدة للأوضاع السياسية والاجتماعية. وفي الحقيقة لعبت الفكاهة في الموروثات الشعبية العالمية دوراً مهماً في معارضة الحكام والساسة، وكشفت الوجه الاستبدادي بخفة وذكاء.
وتعدّ النصوص المسرحية الكوميدية للمؤلف المسرحي (أريستوفان) من أقدم أشكال الأدب الساخر العالمي. ففي مسرحيته (ليسستراتي) يسخر بشدة من خطابات الحرب الدعائية الجوفاء، ومن شرف الجندية الزائف. وفيها تقوم (ليسستراتي) بقيادة رفيقاتها للاستيلاء على قلعة (الأكروبوليس)، المركز الديني والعسكري في أثينا، بعد أن رفضن استقبال أزواجهن الجنود، إلا بعد تركهم مهنة الجندية، ما عرف آنذاك بـ "الإضراب الجنسي" في محاولة منهنّ لإنهاء الحرب، وهو ما نجحن فيه في النهاية. في المقابل عدد كبير من الأدباء السوريين، الذين صنعوا النهضة الأدبية في خمسينيات القرن الماضي، وجدوا في فنّ السخرية ميدان تألقهم وإبداعهم، بل إنّ رواد القصص السوري شكلوا ما سمّوه "عصبة الساخرين"، وكان من أبرز أعضائها: حسيب كيالي وصدقي إسماعيل وسليمان العيسى ومحمد الماغوط وزكريا تامر.
ولا بد من أن نتذكر هنا نمطاً من الأدب الساخر لا مثيل له أبدعه هؤلاء الساخرون، وهو ما حوته مجلة "الكلب" التي كان يكتبها صدقي إسماعيل بخط يده أول الأمر، يتبارى فيها الساخرون بالنباح الشعري ويتهاوشون مع الحكومات، ويعضون السياسة وتعضهم. ولا يخفى على أحد أنّ مسرحيات الماغوط السياسية الساخرة التي كتبها لدريد لحام مثل ضيعة تشرين، وغربة، وكاسك يا وطن، كانت مرآة عكست آمال وأحلام البسطاء، واقتربت من عروش الطغاة المحصنة ولو بطريقة اللغز الذكية.
كلّ هذه الأشكال لم تكن مجرد فنون للتسلية فحسب، كانت آلية فضح وتشهير للممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية رغم نواهي الرقيب الصارمة
في الحقيقة، تعددت فنون الكوميديا السياسية في سوريا، وتطورت أشكالها من أدب الفكاهة إلى "النكتة"، ومن الشعر والزجل إلى الرسومات الكاريكاتورية، فالمسرح وأخيراً الدراما التلفزيونية الساخرة التي غدت خلال العقدين المنصرمين، العملة الفنية الأكثر رواجاً وتأثيراً. كلّ هذه الأشكال لم تكن مجرد فنون للتسلية فحسب، كانت آلية فضح وتشهير للممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية رغم نواهي الرقيب الصارمة. ولاحقاً لم تكن تقليلاً من ويلات الحرب أو آلام ضحاياها، بل كانت تسفيهاً من مُشعليها، وكشفاً لأهدافهم المتوارية خلف شعارت وخطب التعبئة الدموية. ولا شك أن فنّ السخرية، خاصة المصبوغ منه بالصبغة السياسية، لا يقلّ في أهميته عن الألوان من الكتابات الأدبية الجادة. لذا فقد وجده صنّاع الدراما أداة ملائمة ووسيلة صالحة للنقد والتهكم والتغيير. فيبدو في مظهره كوميديَّ المشهد وفي تأثيره مضحكة الواقع، ولمن يعنيه أشدّ من الموت الزؤام. وهذا ما عبّر عنه الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني بقوله: "إن السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعاً خاصاً من التحليل العميق، إن الفارق بين صاحب النكتة والكاتب الساخر يشبه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يُضحي مهرّجاً".
وعليه كان العديد من زعماء العالم يتابعون السخرية السياسية التي يرددها الأدباء، فمنهم من كان يعدّها استطلاعَ رأي لسياسته، وآخرون يرونها مؤشرَ صعود أو هبوط لشعبيتهم. شارل ديغول، مثلاً، كان أكثر ما يزعجه أن تتجاهله السخرية السياسية أو حتى الرسومات الكاريكاتورية. كذلك الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي كانت تجمع له السخرية السياسية التي ابتلي بها بعد هزيمة 1967، بسيل من اللذعات الناقدة للسياسة المصرية، اضطر في إحدى خطبه المشهورة إلى مناشدة الشعب المصري في أن "يتقوا الله في نفسه وأن يرشدوا السخرية السياسية بما لا يؤذي الشعور الوطني".
على صعيد متصل، وبعد عام 2000، أسقط روّاد الدراما السورية آمالهم في التغيير على شخص الرئيس الجديد، الذي افتخر بالصناعة الدراميّة، وتباهى بأنّ زعماء أجانب أثنوا عليه لبثّه مسلسل "مرايا" النقدي على شاشة تلفزيون الدولة. وتكاثرت القصص حول تدخلات الأسد الشخصية، خاصة ما نُقل عن شفاعته لصالح المسلسل الرائد "بقعة ضوء". حيث فاته، وبغير قصد، تلمس خطورة شخصيّة "الرجل البخاخ"، الذي أضحى بطلاً شعبياً، بعد قيامه بالبخّ على الجدران ناقداً كل الظواهر الاجتماعية والسياسية العفنة، فغدا محبوب الجماهير السورية، يهزأ من المستبد ومن أعوان الأمن المكلّفين بالقبض عليه. ولم يتوقف تأثيره هنا، فخلال الانتفاضة، عبّر محتجون في مدن سوريّة عدّة عن حضورهم من خلال بخّاخات الدهن.
الكوميديا السياسية السورية أضحت اليوم أشبه بوجبات خفيفة، بهدف الإضحاك كمتنفس يتصدّى للاحتقانات الاجتماعية، ودون الاستناد إلى نصوص احترافية
وبالفعل قُتل أحد أولئك المحرّضين بعد أن "دوّخ الشبّيحة ورجال الأمن في حمص لأسابيع"، من خلال كتابة آراء معادية للنظام على مبانٍ "حساسة". كما اختفى فنّان غرافتي آخر في دمشق "في ظروف غامضة".
المؤسف حقيقة تعرّض مبدع شخصيّة "الرجل البخّاخ"، الممثل والكاتب عدنان زراعي، إلى الاعتقال بدمشق عام 2012. ويُنسب إلى مسؤولين رسميّين زعمهم أنّ حلقات الزراعي في بقعة ضوء حرّضت على الثورة!.. في سياق موازٍ، وفي رؤية مسبقة لما سيحصل في آذار عام 2011، يمثل مسلسل "ما في أمل"، الذي بُثّ عام 2004 على القناة الفضائية المملوكة من الدولة السورية، حواراً بين مثقفين غير عمليين، يؤدّي دورهما الممثلان فايز قزق وبسام كوسا. حيث يفسر كلاهما، وهما يرتديان ثياباً رثة ويرشفان الشاي الموضوع على طبق متواضع في كوخ مضاء بشكل خافت، مواضيع مختلفة بنبرة تُحيل على كآبة وجوديّة. وفي حلقة لا تُنسى بعنوان "الثورة"، حين يسأله قزق عمّا يشغله، يجيب كوسا بأنه "الثورة التي لم تحدث بعد، ومشكلة من سيقودها"، ويضيف بتأمل أنّ "قائدها ربّما يكون بيننا في ركن مجهول، أو طفل في مدرسة". فيصرخ قزق "الأمر كذلك!، ذلك هو السيناريو الأرجح"..
كان مقدّر لها أن تصنع فرقاً كبيراً، لكنّ الكوميديا السياسية السورية أضحت اليوم أشبه بوجبات خفيفة، بهدف الإضحاك كمتنفس يتصدّى للاحتقانات الاجتماعية، ودون الاستناد إلى نصوص احترافية تتوفّر فيها شروط الدراما الإبداعية. ويعود سبب ذلك إلى مِقصّ رقيب العرض الذي يسمح أو لا يسمح بمرور اللوحة بشكلها الحقيقي على الشاشات المحلية. وعليه تطلّ السياسة برأسها عبر لوحات تتناول فقط ظلالها وتأثيراتها عن طريق كاركترات نمطية، تعتمد النقد عبر القفشات والنكات ولا تهتم لمسارات درامية أكثر واقعية وعمقاً وجدية.
وحقيقة ستبقى التقييدات مفروضة على دراما "السخرية السياسية"، في سبيل ليّ عنقها، وتوظيفها في الاتجاه الدعائي تحت مسميات وذرائع مختلفة. دعونا نتذكر كيف أنّ الممثل زهير رمضان استعار شخصية "المختار" في المسلسل الناجح "ضيعة ضايعة" ليستخدمها في الدعاية السياسية للنظام الحاكم، ومهاجمة دول عربية لم تقف إلى جانب السياسة السورية، ممّا يقيم الدليل على أنّ الأنظمة الشمولية تقف بالمرصاد لأي دراما تتناول الشأن الداخلي، وتستخدمها كرأس حربة للتهجّم على الخارج من أجل إبعاد الشبهات. صفوة القول إن الخوض في الشأن السياسي السوري يبدو اليوم كمن يواجه كلباً مسعوراً يَعضّ ولا يُعَضّ. وعليه بات صناع الدراما يتناولون السخرية السياسية في قالب كوميدي "ساذج"، معزول عن سياقه العام، ليكون أقرب لاسكتشات عابرة تقوم على اصطياد المفارقة التي تثير الضحك، لا أكثر، بأسلوب التلميح طبعاً، لا التصريح.