تجمّع نساء يلبسن الملابس العربية التقليدية في الرقة ودير الزور، يرفعن خلطة أعلام وصور بعضها معروف والآخر مغمور لكن ألوانها متشابهة كمرجعيتها، منها رايات "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) و"قوات حماية المرأة" الكردية (YPJ)، وصور عبد الله أوجلان زعيم "حزب العمال الكردستاني" (pkk) المصنف عالمياً على لوائح الإرهاب، وصور "شهيدات" (YPJ) بملابسهن العسكرية المعروفة. وفي مشهد آخر فتيات بملابسهن العربية التقليدية كالتي يلبسنها في الأعراس مع الحجاب وبعض الزينة يتدربن على الرماية لمقاتلة "الاحتلال التركي" كما يقلن، بمنظر مغاير تماماً للمقاتلات الكردية الجديات بثيابهن العسكرية. وفي مشاهد أخرى رجال قبائل عربية في الرقة ودير الزور والحسكة وريف حلب يجلسون في اجتماعات تقودها تشكيلة من الرفاق والرفيقات يبدأون أحاديثهم بأقوال "القائد أوجلان" على الرغم من أنهم ينفون صلتهم بحزبه! وفي تعليق لأحد مؤيدي قسد على الفيسبوك يتكلم عن "الرفيق الشيخ حميدي دهام الهادي" الحاكم المشترك لإقليم الجزيرة وشيخ مشايخ قبيلة شمر قبل وفاته. تركيبة غريبة وتناقض لا تخطئه العين والمنطق، خاصةً لمن يعرفون المنطقة الشرقية وأهلها.
وفي المقلب الآخر قوات عسكرية ترفع علم الثورة السورية تقاتل قوات أخرى ترفع الراية نفسها، وهو أمر بات اعتيادياً في سوريا حيث تكثر الفصائل، ولكن أن تقاتل بعض تلك الفصائل تحت راية قسد، المعروف أن أساس تنظيماتها لا يمت للثورة السورية بصلة؛ فذلك الغريب! فتنظيمات قسد بإيديولوجيتها ومشروعها وأهدافها معروفة للجميع، وكانت تعمل وتنشط بعلم النظام قبل أن تجد في الثورة السورية فرصة لتحقيق أهدافها كغيرها من أصحاب المشاريع الإيديولوجية القومية أو الدينية أو الطائفية، مستغلةً الأعراض المصاحبة للثورة والتدخل الدولي في المنطقة. مما سبب للثورة السورية أضراراً لا تُعد ولا تُحصى.
عرب تلك المناطق عندما يتكلمون فيما بينهم لا يستخدمون غالباً تسمية قسد بل يشيرون إليها ولسلطتها بـ "الأكراد"
قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي شكلها الأميركان عام 2015 في سياق حربهم على تنظيم الدولة (داعش)، بمكوناتها الأساسية الكردية، والطارئة العربية والسريانية والتركمانية.. إلخ، أراد مؤسسوها الإيحاء من اسمها بأنها سورية بمكوناتها وأهدافها، رغم أن تلك المكونات دخلتها ككتل لكل منها خلفيته القومية أو الدينية أو القبلية وظلت محافظة عليها. حتى إن عرب تلك المناطق عندما يتكلمون فيما بينهم لا يستخدمون غالباً تسمية قسد بل يشيرون إليها ولسلطتها بـ "الأكراد". فالجميع يعرف أن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وأذرعه العسكرية "وحدات حماية الشعب الكردية" (YPG) و"وحدات حماية المرأة" (YPJ) يشكلون القاعدة الصلبة لقسد، فالحزب وأذرعه متماسكون تنظيمياً وإيديولوجياً وعسكرياً، فهو امتدادٌ لحزب العمال الكردستاني وخبرته التنظيمية والعسكرية لأكثر من أربعة عقود. أما المكونات الأخرى فقد انضمت إلى قسد بتشجيع من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من بعض الحكومات العربية. فقد شجع الأميركيون الفصائل التي كانت تتلقى دعمهم في شمال وغرب سوريا للانضمام، وفي مقدمتهم الفصائل التي تشكلت على أنقاض "جبهة ثوار سوريا" بقيادة جمال معروف، وحركة "حزم". فكانت تلك الفصائل بمقاتليها العرب من مؤسسي قسد، مثل: "جيش الثوار" وكل مقاتليه الـ3000 عرب من أرياف إدلب وحلب، وكتائب شمس الشمال، وجبهة ثوار الرقة، بالإضافة إلى "قوات الصناديد" المتشكلة من قبيلة شمر في الجزيرة السورية. ولاحقاً وجه الأميركيون قسد لتشكيل كثير من المجالس العسكرية المحلية كـ"مجلس دير الزور العسكري" و"مجلس منبج العسكري" وغيرهم.
وانخرط بعض شيوخ العشائر ووجهاء العرب في تلك المناطق في سلطة الأمر الواقع "الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا"، التي تعتبر بمجالسها وهياكلها المتعددة الذراع المدنية لقسد، وقد تسلم بعضهم مناصب رفيعة في تلك الإدارة كـ"مجلـس الرقـة المدنـي" برئاسته المشتركة العربية– الكردية. ولكن المعارضة السورية أعربت منذ البداية عن تخوفها أن يكون المجلس مجرد غطاء عربي لـ(PYD) للسيطرة على المحافظة، وضمها لـ"فيدراليته"؛ وهو ما كان.
مجلس الرقة المدني مثال للهياكل الإدارية الكثيرة التابعة للإدارة الذاتية، التي يبدو أن كثرتها وتداخلها ليس مصادفة بل هو محاولة لإظهار وجود تجربة ديمقراطية تتساوى فيها "شعوب" المنطقة، بينما تتركز السلطة الحقيقة بيد (PYD) وكوادره. حيث يبدو، وكما في دولة الأسد، أن جميع التكتلات السياسية والحزبية والعسكرية والهياكل التشريعية والقضائية والمدنية تدور في فلك هذا الحزب، فرغم انتخابات مجالس وهيئات الإدارة إلا أنها في الحقيقة معينة تعييناً، كجميع أعضاء "المجلس التشريعي" في "مجلس الرقة المدني" على سبيل المثال.
جاءت تشكيلة قسد متأثرة بالواقع والسياق العسكري والسياسي وما كان يجري في المنطقة، لكن يبقى العامل الأهم لانخراط القبائل العربية في قسد هو عدم وجود خيارات أمامها، لأنها الطرف الأضعف على الأرض تنظيمياً وعسكرياً بعد تقاسم القوى المؤثرة مناطق النفوذ في سوريا، فكانت مناطقهم من حصة الولايات المتحدة ووكلائها الأكراد، وكان على عرب هذه المناطق تدبر أمرهم مع ما يريده الأميركان برضاهم أو من دونه.
وقد ارتضى عرب قسد أن يكونوا درجة ثانية في كل ما يتعلق بإدارة مناطقهم عسكرياً ومدنياً، بالرغم أن عددهم في قسد يفوق الأكراد. فكل من في الرقة يعلم أن كوادر (PYD) هم أصحاب الكلمة الفصل في المحافظة، وأن تمثيل أهل الرقة في المؤسسات الأمنية والعسكرية قليل، وأن المناصب العليا للأكراد الذين ما زالوا يستخدمون أسماء حركية جاؤوا بها من جبال قنديل حيث معاقل (pkk)، وهؤلاء هم المتحكمون الرئيسيون بمشروع "الإدارة الذاتية" كما أكدت العديد من المصادر التي عملت مع قسد ومنهم العقيد طلال سلو، بالإضافة إلى أحد أعضاء مجلس الرقة المدني، الذي قال: بالرغم من تسلم بعض أهل الرقة للمسؤوليات لكنهم دون سلطة حقيقية.
أن العرب المنخرطين فيها رغبةً أو كرهاً قلقون ويدركون أنهم في بيئة متحولة، ولديهم مخاوف دائمة من أن تسلم قسد مناطقهم للنظام
هذه التركيبة العسكرية والسياسية والإدارية، بقيادة حزب غريب عن سياق المنطقة وثقافتها، لم تكن نتاجاً أو رغبة محلية إنما وقفت خلفها قوى دولية وإقليمية، لذا فإن استمرارها منوط بإرادة تلك القوى ومصالحها. لذلك نجد كثيرا من السياسيين والمثقفين الكرد ينتقدون (PYD) على إدخال الأكراد في مشاريع لا تخدمهم وتحملهم تبعاتها. كما أن العرب المنخرطين فيها رغبةً أو كرهاً قلقون ويدركون أنهم في بيئة متحولة، ولديهم مخاوف دائمة من أن تسلم قسد مناطقهم للنظام، وظهر ذلك جلياً في تحركات بعض شيوخ القبائل، فنرى شيخ شمر حميدي دهام الهادي يحافظ على علاقاته مع النظام والروس، حتى إنه زار دمشق مطلع عام 2019.
بقاء هذه التركيبة الهجينة "قسد" مرهون باستمرار الحالة السورية على ما هي عليه، وبقرار الفاعلين الدوليين والإقليميين المحافظة على الوضع القائم حفاظاً على مصالحهم وأهدافهم في المنطقة، كالحرب على الإرهاب والضغط على تركيا. والقوى الكردية المسيطرة على قسد (PYD وPKK) تعرف ذلك، ولهذا تحاول الاختباء خلف رغبات تلك القوى الفاعلة وكأنها الوكيل الحصري للحرب على الإرهاب. على الرغم من أنها تدرك أن المكون العربي من السهولة بمكان أن يتخلى عنها إذا تغيرت الظروف، وهو ما برز مؤخراً مع عرض الولايات المتحدة على تركيا أن تقوم بإعادة هيكيلة قسد وإعطاء دور أكبر للمكون العربي في المناطق العربية القريبة من تركيا. كما أن قسد تستغل خشية سكان المنطقة الشرقية من عودة حكم الأسد وتقدم نفسها كبديل. وهكذا فإن سكان المنطقة يجدون أنفسهم أمام خيارات كلها مُرة، بسبب تغافل الجميع عن أصل الداء في سوريا (نظام الأسد).