يطل علينا "الواقعيون الجدد" في كل فترة بخطاب جديد، يلبس لبوس الحرص على رفع معاناة السوريين ورد المظالم عنهم، والبحث عن سبيل للخروج من هذه المقتلة السورية الممتدة منذ عشر سنين، و"الواقعيون الجدد" بكل أنواعهم وألوان أعلام الدول التي يستظلون بها، لا يعرفون من الواقعية سوى بضع جمل يكررونها بإيقاع عربي فصيح ليثبتوا أنهم على جادة الصواب وأن سواهم مجرد حالم أو مغامر أو منفصل عن الواقع.
جميع المتذرعين الجدد بالواقعية في المعارضة، يكررون المقولات نفسها، وهي مقولات ظاهرها الفهم العميق للسياسات الدولية وتشابكها واصطدام استراتيجياتها، وباطنها عجزهم الذي لا يريدون أن يعترفوا به، وهو عجز مقيم في بنية تفكيرهم وينعكس في نظرة الاستعلائية عن الشعب السوري، مقولات من مثل "أن القضية السورية خرجت من أيدي السوريين"، وأن "الحل في سوريا لا يمكن أن يمر سوى عبر تفاهمات الدول"، بعضهم يعني بكلمة الدول روسيا تحديدا، وبعضهم الآخر أميركا أو تركيا أو السعودية أو قطر أو حتى إسرائيل، لكنهم جميعا وبغض النظر عن جملهم الأنيقة الموزونة التي تتمختر بعمق فهمهم للسياسة الدولية، يقعون في تناقض أساسي، فهم من ناحية يزعمون أن هدفهم تحقيق آمال وتطلعات السوريين وتنفيذ أهداف ثورتهم، وفي الوقت ذاته يذهبون للقول أن الرهان هو على تفاهمات الدول وما ستتفق عليه من حلول.
أسوأ أنواع "الواقعيون الجدد" هم "واقعيو موسكو"، أولئك الذين يصرون على الذهاب في طريق هذه الدولة المجرمة
التناقض أيضا بين القول "إن جوهر الحدث السوري هو ثورة شعبية تريد الخلاص من منظومة استبداد مجرمة"، والقول إن الحل ليس بيد السوريين، وهذا في الحقيقة ليس سوى تعبير عن الاستقالة من الوطنية السورية وهو أيضا استخفاف بحجم تضحيات وصبر ونضال السوريين الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا.
أسوأ أنواع "الواقعيون الجدد" هم "واقعيو موسكو"، أولئك الذين يصرون على الذهاب في طريق هذه الدولة المجرمة التي يفتخر زعيمها بتجريب مئات أنواع الأسلحة الحديثة على رؤوس السوريين وفي حقل رماية "رخيص وغير مكلف" على حد تعبيره، هذه الدولة التي حطم طيرانها الحربي عشرات المدن والقرى السورية على رؤوس أصحابها، وقتل منذ تدخلها أكثر من مئة وعشرين ألف مدني سوري باعتراف مسؤوليها الذين يفتخرون بعملهم المجرم هذا واصفين القتلى بأنهم "إرهابيون"، ثم يأتي الواقعيون هؤلاء للحديث عن ضرورة الحوار مع موسكو، فهي التي تملك مفاتيح دمشق وهي القادرة على طرح الحلول وترتيبها، ويتهمون كل من سواهم بالعبثية والطوباوية، وكأن الواقعية فقط هي في احتضان الجزار والخضوع أمام المجرم، وهذا أمر ربما لم يشهد له التاريخ مثيلا، أن تقوم دولة بذبح شعبك، ثم تراهن على هذه الدولة بأنها ستأتي لك بالخير، وقد يكون من الجدير التذكير أن هؤلاء لم تنبت واقعيتهم الآن وبعد تغير الظروف، بل كانت واقعيتهم بادية منذ أول يوم من أيام الثورة، فهم أصلا لا يؤمنون بإرادة الشعوب ولا بحقها في أن تقول كلمتها، ولذلك عملوا منذ اليوم الأول على بث هذه الروح الانهزامية والقول بأن نظام بشار عصي عن الاقتلاع من دون تفاهمات بين الدول، وهم بهذا الطرح يلتقون من حيث لا يدرون مع سردية النظام على توصيف الحدث السوري والذي يزعم فيه أنه مجرد مؤامرة دولية عليه.
لقد ذهب بعض "الواقعيون الجدد" إلى موسكو فامتلأت غرف التواصل الاجتماعي السورية بثرثرات وتحليلات وصلت إلى حد تورط صحيفة عربية يفترض أنها رصينة في تحليل ما حدث في موسكو، خاصة لما قيل عن فكرة تشكيل مجلس عسكري والذي للأسف بات حديث الطبقة السياسية العاجزة والتي لا تجد ما تفعله سوى لوك التحليلات والجمل المفخمة والمطعمة ببعض المصطلحات السياسية.
ولم يخبرنا "واقعيو موسكو" ما الذي يريده الروس، وما الذي قالوه لهم، مع العلم أن رصدا بسيطا لمسار الديبلوماسية الروسية يخبرنا بالكثير، فروسيا تعمل الآن على تنفيذ خطوتين، هما:
- الخطوة الأولى: إعلان أن العملية السياسية قد ماتت وأنه لا مجال لتنفيذ خطوات القرار 2254، وهذه الخطوة تجد استجابة كبيرة في أوساط "واقعيو موسكو" و"الواقعيون الجدد" عموما المتلحفين بأعلام الدول المختلفة، وبتنا نسمع كلاما مختلفا منهم يقول: "بأن هيئة الحكم الانتقالي لم تعد ممكنة، وأن الظروف تجاوزت القرار الدولي وآلية تنفيذه، وأن النظام لا يمكن أن ينخرط بعملية سياسية جادة" ولذلك يجب البحث عن وسائل أخرى ومنها مثلا تشكيل مجلس عسكري من المعارضة والنظام... إلخ هذه الطروحات.
- الخطوة الثانية التي تريدها موسكو، هو نقل العملية السياسية من جنيف إلى دمشق أي إنهاء كل المرجعيات الدولية وتحويل هذه العملية لمجرد حوار سوري - سوري يحتضنه بشار الأسد ويشرف عليه، فموسكو لا تفكر سوى بطريقة لإقناع إدارة بايدن بتخفيف العقوبات على بشار ونظامه، ولذلك تبحث عن حصان طروادة يذهب إلى دمشق لتقول لإدارة بايدن أن هناك عملية سياسية تجري في دمشق وحتى تثمر علينا أن نقدم بعض الجوائز لبشار.
هذا هدف موسكو الذي يعرفه جيدا كل أنواع "الواقعيون الجدد"، من واقعيي أستانة إلى واقعيي اللجنة الدستورية، وواقعيي الائتلاف الوطني واستطالاته العديدة التي بات همها فقط أن تتكيف مع مصالح الدول وتقدم لهم المقترحات المريحة لتنفيذ أجنداتها بأرخص الأثمان، وكأن عشقهم للهزيمة يدفعهم لرفع الكلفة عن الدول التي تريد تحقيق مصالحها في سوريا.
نصف الحقيقة تضليل أسوأ من الكذب بل هي الخداع المهين، ولاسيما إذا كان هذا الخداع تحت عنوان وشعار رفع المعاناة عن السوريين
" واقعيو موسكو" وغيرهم من الواقعيين لا يقولون سوى نصف الحقيقة، فهم تحدثوا أن واحدا منهم اقترح على الروس موضوع المجلس العسكري، لكنه لم يقل في أي سياق قدم هذا الاقتراح، ولم يقل أن الاقتراح كان مجرد تساؤل عن الضمانات التي يمكن تقديمها ليذهبوا في طريق دمشق، ولم يقل أن الروس لم يقدموا أي ضمانات بل اكتفوا بالقول إن الآوان قد حان لفتح حوار مباشر بين النظام والمعارضة بعيدا عن الأمم المتحدة وعملية جنيف، ولذلك سأل أحدهم عن آلية تحييد جيش النظام وأجهزته الأمنية وهل يمكن تصور مجلس عسكري يضمن هذا الأمر ويسمح لهم بحرية الحركة في دمشق، وسكتت موسكو ولم تجب فتورط كثيرون بنسج أوهام حول موضوع المجلس العسكري وضرورته وتحليل من ورائه ومن يدعمه وغير ذلك من تفكير رغبوي وأوهام لا تفضح سوى حالة عجز الطبقة السياسية السورية وتهافتها المريع، وتنازلها عن دورها المفترض بالتمسك بقرارات الشرعية الدولية فقط لا غير من دون بطولات أو تقديم تضحيات.
نصف الحقيقة تضليل أسوأ من الكذب بل هي الخداع المهين، ولاسيما إذا كان هذا الخداع تحت عنوان وشعار رفع المعاناة عن السوريين، متناسين أن هؤلاء السوريين ليسوا مجرد ضحايا حرب همجية شنها نظام مجرم ودولتان مارقتان بل هؤلاء ثوار ضحوا وقدموا دماءهم وممتلكاتهم من أجل نيل الحرية والخلاص التي لا يمكن أن تأتي من بوابات الدول، ولا من الابتسامات مع وزراء الخارجية، فخلاصنا كسوريين أن نعود إلى سوريتنا وأن نؤمن أن شعبنا وإرادته فوق إرادة كل الدول، وأن من يفهم السياسة كعمل في غرف الانتظار في السفارات يجب أن يلفظه الشعب، فالسياسة هي القدرة على تنظيم قوى الناس وتوجيهها نحو الهدف الذي ثاروا من أجله وليس بيع تضحياتهم على مذابح مصالح هذه الدولة أو تلك، والتنازل عن قرارات الأمم المتحدة تحت عنوان الواقعية والمرونة وتغير الظروف هو تنازل ممن لا يملك هذا الحق، لأن القرارات الدولية ملك للسوريين وهي نتيجة تضحياتهم ولم تكن في يوم من الأيام نتيجة ابتسامات هؤلاء للكاميرات في صورهم مع وزراء الخارجية.