في العاشر من حزيران/يونيو ٢٠٠٠ خرج على شاشة التلفزيون السوري مقدم البرامج الدينية مروان شيخو ينعى موت حافظ الأسد بالديباجات والكيليشهات التي حفظها السوريون عن ظهر قلب، لم تغب شمس اليوم حتى كان مجلس الشعب قد اجتمع ليعدل الدستور السوري لكي يتناسب مع عمر الرئيس الجديد بشار الأسد، وتم التعديل من سن ٤٠ عاماً حتى سن ٣٤ عاماً، أي بمطابقة تامة ووقحة، ولكنها في الوقت نفسه مطمئنة، لعمر بشار الأسد.
الخطوة الأكثر أهمية وخطورة في هذه الأيام لم تكن تلك التي جرت في مجلس الشعب، وإنما التي جرت في مكان غير بعيد عنه في مقر قيادة الأركان، حيث تم توقيع قرار ترفيع بشار الأسد من رتبة عقيد إلى رتبة فريق ضربة واحدة، وتعيينه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة، وقد دخل بشار الأسد السلك العسكري في ١٩٩٤ ليتم تأهيله بعد مقتل أخيه باسل الأسد، أي أن الحياة العسكرية لبشار الأسد كانت بمجملها ست سنوات استطاع أن يقطع فيها ما يحتاج ضابط متميز، تطوع في الجيش ولم يتعرض في حياته العسكرية تلك لأية عقوبة مسلكية، لأربعين عاماً ليقطعه.
كيف حصل ذلك، وهل هذه سابقة في الجيش السوري؟ في حقيقة الأمر إن ما حصل هو أمر يكاد يكون اعتيادياً في الجيش السوري، لنعد للقصة منذ بدايتها.
في الثامن من آذار من عام ١٩٦٣ استيقظ السوريون على الإذاعة السورية وهي تتلو البيان رقم واحد، وقد سمع السوريون كثيرا من البيانات ذات الرقم واحد، وهي البيانات التي لطالما عبرت عن فجر انقلاب عسكري. لم يكن هذا الأمر بغريب عنهم، لكن ذاك الانقلاب كان رغم صورة تكراره مختلفاً عن غيره. إن أهم ما يميز انقلاب البعث عن غيره من الانقلابات وبالتالي يجعل من نهايته مختلفة عن غيرها أنه كان محملاً بحمولة أيديولوجية، فالانقلابات السابقة كانت لقادة عسكريين طامحين في السلطة، منهم من لم ير سوى السلطة مثل حسني الزعيم، ومنهم من رغب في تبني أيديولوجيا معينة بعد سيطرته على السلطة ليمنح انقلابه شرعية سياسية كما فعل أديب الشيشكلي، أو كان الانقلاب لتغيير الوضع القائم دون تقديم قيم سياسية واجتماعية جديدة كما كان انقلاب النحلاوي في مشروعه فصل سوريا
لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى بدأ الشركاء بتصفية بعضهم، فقامت اللجنة العسكرية بداية بتصفية كتلة الناصريين، ومن ثم كتلة زياد الحريري
عن مصر مرة أخرى، يضاف إلى ذلك كان الاطلاع على التجربة المصرية وقدرة الضباط الصغار على تولي زمام الأمور دافعاً آخر. كان الضباط الذين قاموا بانقلاب ٦٣ ضباطاً يتفقون على أيديولوجيا قومية من المفترض أن تتطبع بطابع شمولي، ولم يقم ذاك الانقلاب كما يتم الحديث عنه حتى اليوم على عاتق البعثيين وحدهم، بل كان عبارة عن تحالف التوجهات القومية في الجيش السوري، وهم الناصريون من أمثال محمد الصوفي وراشد القطيني وجاسم علوان والبعثيون إضافة لكتلة الحريري، وهي كتلة مستقلة، وحتى كتلة البعث لم تكن واحدة، فهناك كتلة الحوراني التي لم تستمرئ الانقلاب كثيراً يضاف إلى ذلك كتلة اللجنة العسكرية التي امتلكت علاقة معقدة مع القيادة المدنية المتمثلة بميشيل عفلق وصلاح البيطار، وكانت الخطة المعلنة للانقلاب العودة للوحدة مع مصر على اعتبار أن الانقلاب الذي سبقه قطعا لمشروع الوحدة العربية، لكن لم يكن في حسبان الضباط الصغار عودة توحيد القطرين. رغم أن الناصريين مثلوا الضباط الأعلى رتبة في الانقلاب، لكن البعثيين تعلموا الدرس جيداً من الناصريين أنفسهم، فانقلاب تموز/يونيو في مصر ١٩٥٢ أتى بمجموعة من الضباط الصغار بعد أن أزاحوا الضباط الأعلى رتبة مثل اللواء محمد نجيب. لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى بدأ الشركاء بتصفية بعضهم، فقامت اللجنة العسكرية بداية بتصفية كتلة الناصريين، ومن ثم كتلة زياد الحريري، وقد ساعد اللجنة العسكرية أن صلاح جديد تسـلم مكتب شؤون الضباط وبدأ يتحكم بحركة التنقلات ويضع هندسة عسكرية تتناسب مع قدرته على التحكم بضباط الصف الثاني وصف الضباط في الجيش، وما كان يتميز به صلاح جديد عن غيره، قدرته الفائقة على تنظيم العلاقات والتواصل، ولم تخل تلك التصفيات من تصفيات جسدية من خلال الاغتيال، أو معنوية من خلال التسريح.
بعد الانقلاب مباشرة بدأت حفلة كبرى تشبه تلك التي ترفع فيها بشار الأسد من رتبة عقيد لرتبة فريق، ولكن على مستوى أكثر اتساعاً، فالعميد محمد الصوفي ترفع مباشرة لرتبة فريق، وترفع زياد الحريري لرتبة لواء، والعميد غسان حداد البعثي لرتبة لواء، في حين تم استدعاء العقيد محمد عمران والمقدم صلاح جديد عضوي اللجنة العسكرية اللذين كانا مسرحين ويعملان في الخدمة المدنية ليصبح كل منهما لواء، وكذلك أمين الحافظ الذي كان ملحقاً عسكرياً برتبة عقيد تم استدعاؤه من الأرجنتين سنة ١٩٦٤ ليرفَّع إلى رتبة فريق، والملازم أول حافظ الأسد الذي كان مسرحاً من الخدمة أيضاً تم استدعاؤه ليصبح خلال عام برتبة لواء.
بعد القضاء على نفوذ كتلة الناصريين بتموز ١٩٦٣، ومن ثم قمع محاولة جاسم علوان الناصري الانقلابية، بدأت الكتلة البعثية تأكل نفسها، وتم القضاء بداية الأمر على كتلة ضباط أكرم الحوراني، ومن ثم تم الانقلاب على أمين الحافظ وأنصاره عام ١٩٦٦ بما سماه البعثيون بالانقلاب الأبيض. في غضون ذلك فإن القضاء على نفوذ أي كتلة يتطلب بطبيعة الأمر تسريح العديد من الضباط وصف الضباط المناصرين له، وراحت اللجنة العسكرية البعثية تستعيض عنهم بتجنيد طلاب ضباط أو مدنيين، وعلى رأسهم من صفوف المعلمين، لما كان للبعث نفسه من انتشار في صفوف المعلمين، وإذا علمنا أن الجناح المدني لحزب البعث إثر انقلاب البعث لم يكن يضم أكثر من ٤٠٠ عضو، يمكننا أن نستنتج أن معظم من تم تجنيدهم ليسوا من حزب البعث أصلاً، أي لم يكن تجنيدهم على أساس تنظيمي حزبي، ولكن على أساس العلاقات الزراعية التقليدية، فكان ضباط اللجنة يشعرون بالثقة من خلال تجنيد أقاربهم وأبناء القرى المحيطة، الذين يقابلونهم بالولاء، ولأن معظم الريف المحيط بضباط اللجنة العسكرية هو ريف علوي، بدأ في تلك المرحلة تشكل وعي بضرورة الالتزام بالبنية الطائفية، وإن لم يركز صلاح الجديد الرجل القوي في اللجنة العسكرية مطولاً على ذلك، فإن حافظ الأسد كان أكثر وعياً لتلك النقطة، بل وبدأ يبني مشروع الولاء ذلك انطلاقاً منها، فحين كان يطلب صلاح جديد ضباطاً موالين في القطع العسكرية الضاربة، كان الأسد يراعي التوزيع الطائفي، بل والتوزيع العشائري ضمن الطائفة العلوية، وبات الأمر أكثر تحكماً من قبل الأسد عندما تم القضاء على كتلة أحمد سويداني رئيس الأركان ليتسلم منصبه عام ١٩٦٨ رجل حافظ الأسد مصطفى طلاس.
إن انقلاب البعث وتغول الضباط الصغار على السلطة وانقطاع السلسلة العسكرية التقليدية لصالح القوى المتصارعة سياسياً والمتناحرة على القوى الضاربة مثل القوى الجوية واللواء ٧٠ المدرع أدى إلى إرهاق المؤسسة العسكرية ودخولها حرب ١٩٦٧ بنتيجة معروفة مسبقة، فما بين عام ١٩٦٣ وحتى عام ١٩٦٦ تم تسريح ما يزيد على ٧٠٠ ضابط وأكثر من ثلث سلك الضباط وتعويضهم بمدرسين أو بطلاب ضباط أو بفنيين، يرتبطون بشكل مباشر مع الضباط البعثيين الريفيين، وبشكل أساسي مع الضباط العلويين، وخلال تلك الفترة تناوب على منصب رئيس الأركان ثمانية ضباط، في حين تولى وزارة الدفاع خمسة آخرون، وكان كثير من هؤلاء
لم يشعر حافظ الأسد بخطورة إسرائيل بقدر استشعاره لخطورة تأتي من الجيش نفسه
برتب صغيرة مثل رواد أو نقباء في الجيش. بهذه العدة دخلت سوريا الحرب مع إسرائيل، إسرائيل التي دخلت الحرب بجيش احترافي مدعوم من قوى غربية وبضباط كانوا قادة ميليشيات ومعارك أثناء الحرب العالمية الثانية ومن ثم حرب الوكالة اليهودية ضد العرب قبل إعلان دولة اسرائيل واستمروا بعدها، بينما كان الضباط السوريون على ”ملاك مديرية التربية“ لفترة زمنية طويلة، وقادتها لم يشاركوا في معركة يوماً، بل نمت عقيدتهم العسكرية في ظل الانقلابات والمؤامرات العسكرية على السلطة، ولذلك كان أمر الانسحاب العشوائي الذي جاء من وزير الدفاع حافظ الأسد حينها، وذلك لإعادة القوات الضاربة في الجيش لدمشق خشية استغلال فرصة الحرب وحدوث انقلاب عسكري، لم يشعر حافظ الأسد بخطورة إسرائيل بقدر استشعاره لخطورة تأتي من الجيش نفسه، كانت العقيدة العسكرية للجيش السوري وما زالت منحرفة وشاذة ترى الجيش بالدرجة الأولى ومن ثم القوى السياسية والمدنية الداخلية هي العدو الحقيقي، وليس ذلك الذي يقبع خلف الجبهة، لأن الأمر لا يدور حول الأرض ”الوطن“، ولكن حول السلطة ”السيادة“ كما يحلو لهم أن يسموها.
لم نخسر الحرب لأن إسرائيل قوة ضاربة لا تهزم، بل خسرناها لأننا خضناها بمديرية التربية وضباط عديمي الخبرة، وتقع السلطة في صلب عقيدتهم العسكرية، ليستحق الجيش عبر الزمن، وضمن عملية تراكمية من الفساد والانحلال والترهل لقباً شعبيا لكنه الأكثر تعبيراً عنه ”جيش أبو شحاطة“.