قبل الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة " موحدة لإسرائيل" ونقل السفارة الأميركية إليها، وانهمار الإجراءات الأميركية المتسارعة برفض الاعتراف بحق اللاجئين ودعم الخطوات الإسرائيلية القاضية بضم الكتل الاستيطانية، والصمت الأميركي والقبول لنية ضم منطقة الأغوار وشمال البحر الميت مع ضم الكتل الاستيطانية، فضلاً عن الهجمة على وكالة الأمم المتحدة "الأونروا" وعلى الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل، تبقى المواقف المناهضة لهذه السياسة فلسطينياً وعربياً صفرية، بعد ضعفها وهشاشتها.
الغياب الكلي للموقف العربي، ومن خلفه الفلسطيني الغارق بمآزق شتى، فشل بشكل مدوٍ بالتصدي لخطط تصفية القضية، وهي ليست وليدة الحقبة الترامبية كما يحلو للبعض التذرع بها، بقدر ماهي خسارة للرهانات الفاشلة بالإصرار المستمر على تقديم ما فشل أنه ممكن للمضي به لتحقيق تقدم "بعملية سياسية" كل ما يحيط بها يقدم آلاف البراهين توجهها نحو إضعاف وتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، التجارب والوقائع طافحة بهذا الشأن.
تكرار الحديث عن الثوابت الفلسطينية، دون ممارسة سياسية لا تستطيع حمايتها، والحالة الانتظارية التي منيت بها مواقف عربية وفلسطينية للرهان تارةً على إدارة أميركية، وأخرى على حكومات إسرائيلية تتبارز بين حزبي "الليكود" واليسار لا فارق بين صهيونيتهم، جردت الفلسطينيين من وسائل القوة بعد الرضوخ للشروط والإملاءات والضغوط طوال ربع قرن، والالتزام بتنفيذ اشتراطات أمنية وسياسية، كانت بالأساس تعمل على نزع جوهر الصراع وتجريد مضمونه التاريخي من محتواه.
أعلن ترمب عن صفقة القرن بعد أن أصبحت واقعاً فعلياً على الأرض، وأياً تكن بنودها فهي كما يرى الأميركي والإسرائيلي والمهرولون من النظام العربي نحو قبول الصفقة وإخراج التطبيع للعلن، الأجواء مهيأة أفضل من أي وقت مضى لتمرير صفقة تصفية القضية الفلسطينية، فلا مؤشرا عربياً يدل على غير ذلك ولا فلسطينياً، على العكس تماماً من يظن بإعلان مستمر على اجترار مواقف لا تقدم سوى مزيد من الأوهام للشارع الفلسطيني، حتى الحديث عن انتفاضة ثالثة فهذا يحتاج لوحدة موقف فلسطيني وإجماع يُخرج الجميع من مغطس الانقسام، فإذا كان حجم الإجراءات والعدوان بهذه الضخامة من ضم القدس والاعتراف بها ونية ضم الأغوار والمستوطنات، مع ملفات ضخمة لا تقل أهمية وخطورة في الصفقة المنتظرة، لا يمكنها الدفع بِحثْ الجانب الفلسطيني لترتيب البيت سريعاً، فـعلى ماذا الرهان بعد فشل معظمه؟
يعرف الشارع العربي والفلسطيني، أن بعض النظام الرسمي العربي الناشئ مع نكبة الفلسطينيين منذ العام 48 من القرن الماضي، هو جزء من صفقة تمكين المؤسسة الصهيونية لإنجاز مشروعها، وصفقة اليوم لا تكتمل إلا باستمرار منظومة القمع العربي، ومن دونها لم يكن باستطاعة إسرائيل وأميركا المضي نحو تحقيق "الحلم الصهيوني" فمواجهة المشاريع والصفقات لا تتم بإقامة معتقلات وزنازين بمنظومة حاكمة فاشية تقوم بقصف وتدمير المدن والقرى والأرياف بالصواريخ والبراميل المتفجرة لكسب رضا المحتل عن الوظيفة التي تمهد الأرضية لإلحاق الهزيمة بـ"عدو" الحلم الصهيوني.
خسارة الشارع العربي والفلسطيني، مع تغول أنظمة الطغيان والقمع والفساد به، والتحالف معها وتمجيد طغيانها، وإجراءات عدوانها على مجتمعات كانت وستبقى حصن الدفاع عن معظم القضايا، لن تجلب غير وصفات مستحيلة لمواجهة المحتل، غير ذلك النتائج ماثلة أمامنا، ففي ظل الحديث عن ترتيب صفقة القرن يرتفع مستوى التطبيع مع إسرائيل، ويرتفع معه منسوب القمع والوحشية للشارع العربي المنتفض على أنظمة وسياسات كارثية، ويزداد الشرخ في الساحة الفلسطينية.
لا يملك الطرف الرسمي العربي ولا السلطة الفلسطينية، و طرف انقسامها، ما يوحي إفشال ما يحاك للقضية، مع أن التشخيص لامس جوهر المخاطر وطفحت به أدبيات حركة التحرر الوطني الفلسطيني أضف إليهما أطنان التصريحات الدولية والعربية المتلاعبة بهم، كل ذلك لم يحثهم ويدفعهم لبناء استراتيجية واضحة لحماية الحقوق الفلسطينية، تناول الوضع الإسرائيلي الداخلي بتفصيل البازار الانتخابي بين "نتنياهو وغانتس" وتذكير المجتمع الدولي بالقرارات الدولية المتصلة بالصراع مع المحتل والحق الفلسطيني، لم يفد ويحمي هذا الحق، وكما قلنا الحديث شيء والممارسة نقيض مختلف تماماً .
الاستمرار في لعبة " العملية السياسية " الشكلانية وإهدار الوقت في لعبة الخروج من الانقسام الفلسطيني، وإدارة الظهر لشوارع عربية ثائرة بالتأكيد ستتيح للمحتل الانقضاض على ما تبقى من أحلام الدولة والاستقلال الفلسطيني المزعوم، وهو ما يتم فعلياً، أما الإصرار على تقديم وصفات مستحيلة للمواجهة، دون تطبيقها والأخذ بها سيزيد حتماً من فرص الانتقال لما هو أبعد من صفقة القرن التي لا تعرف السلطة الفلسطينية ولا الفلسطينيون عموما تفاصيلها .
رسمت السلطة الفلسطينية لنفسها خطوطاً حمراء منذ أوسلو، مما شكل هاجساً ضاغطاً شوش عليها الرؤية، كذلك فعلت بقية الفصائل والحركات، وأربك عليها حساب الاحتمالات والنتائج سيما بعد الضغوط التي تعرضت إليها من الولايات المتحدة وإسرائيل والنظام العربي، وفي إشارة إلى الفارق الشاسع بين موقف السلطة وبين موقف الشارع الفلسطيني والعربي الثائر بوجه سياسات أنظمة متخاذلة، اختارت حركة التحرر الوطني الفلسطيني ومعها السلطة الوقوف دوما بجانب أنظمة قمعية ووحشية، تعمل على تطويع الشوارع العربية مع صفقات تبدأ بالتطبيع مع الوحشية والطغيان، ولا تنتهي بالتطبيع مع صفقة يستحيل معها تقديم وصفة من اجترار الفشل لهزيمتها .