في إحدى المقالات التي تتحدَّث عن علم نفس الجريمة قرأت معلومة تفيد أنَّ الجرائم الأشد سوءاً لا يرتكبها الأغبياء والحمقى، بل يرتكبها الأذكياء المحترفون الذين لديهم قدرات عالية على الخلق والإبداع، بل ربَّما يكون السعي إلى عالم مثالي -من وجهة نظر المجرم طبعاً- هو أحد أهم الدوافع من وراء القيام بهذه الجرائم، فعلى سبيل المثال، يشاع أنَّ الغاية التي وقفت وراء عملية الهولوكوست التي قضى بسببها حرقاً ملايين البشر، والتي نفَّذها زعيم النازية هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، هي المحافظة على العرق الآري النقي الذي يفوق في جودته كلَّ الأعراق، وهذه شائعة تلحقها كثير من الشائعات والتي تنتهي جميعها بمحرقة بشرية شنيعة، تعدُّ من أكبر الجرائم في ذلك الوقت. فهل يمكننا الآن أن نصنِّف الجرائم بين جرائم يرتكبها الأغبياء وأخرى يرتكبها الأذكياء؟ أم تبقى الجريمة جريمةً بغضِّ النظر عن صفة مرتكبيها؟
يمكننا النظر إلى دوافع جرائم هتلر على أنَّها دوافع نحو غايات جماعية، لا تخصه وحده، وهي المحافظة على نقاء العرق الذي ينتمي إليه –وهذا لا يبرِّرها بالطبع- بيد أنَّنا لو بحثنا عن الدوافع النفسية التي تقف وراء ما قام به بشار الأسد إزاء الشعب السوري، فإنَّنا لن نجد سوى دافعا فرديا وحيدا وهو الحفاظ على الكرسي محصوراً ضمن عائلة الأسد، وتحقيق حلم الأبدية مهما كان الثمن غالياً، ومهما كانت الوسائل المستخدمة بشعة، إذ إنَّ جرائمه استهدفت شعباً بكامله، فلم تبقِ على شيء منه ولم تذر.
وتشير التقارير التي تجرِّم بشار الأسد إلى انتهاكات واسعة قام بها النظام السوري تبدأ باستهداف المدنيين من خلال هجمات عشوائية مسلحة غير قانونية، شملت المظاهرات السلمية في بعض الأحياء السكنية، ما لبثت هذه الهجمات أن تحوَّلت إلى معارك مسلَّحة، تقوم من خلالها ميليشيات النظام بالاعتقالات التعسفية والقتل المجاني، بهدف قمع الثورة، والقضاء على المعارضة، أو أيِّ احتجاج يطول النظام السوري. وبعد أن تفاقمت الأمور بدأ النظام بتصعيد المواجهة من خلال قصف المدنيين والأحياء السكنية بالبراميل المتفجرة والقنابل التي نسفت البيوت وأزهقت الأرواح البريئة، ولم يتوانَ النظام الأسدي عن استخدام الأسلحة الكيميائية، فقد أكَّد رئيس منظمة الأسلحة الكيميائية أمام الأمم المتحدة أنَّ النظام السوري استخدم هذه الأسلحة المحرمة دولياً فيما لا يقل على (17) مرة خلال الحرب الأهلية في سوريا، في مناطق مختلفة من إدلب وحماة وريف دمشق.
النظام السوري كان يستهدف في هجماته العسكرية المسلَّحة المرافق الحيوية التي تشكِّل جزءاً مهماً من البنى التحتية للدولة؛ كالمستشفيات والمدارس
ومن الجدير بالذكر أنَّ النظام السوري كان يستهدف في هجماته العسكرية المسلَّحة المرافق الحيوية التي تشكِّل جزءاً مهماً من البنى التحتية للدولة؛ كالمستشفيات والمدارس، بالإضافة إلى منعه لوصول أيِّ مساعدات إنسانية للمتضررين من جراء القصف، وهذا بالطبع لا يمكن أن يقوم به من يتصف بالإنسانية أو السوية العقلية، إذ ما جرى على أرض سوريا فاق الاحتمالات والتصور.
ولا يمكن أن ننسى أقبية السجون الأسدية التي شهدت جرائم لا إنسانية بحق الناشطين السياسيين والصحفيين والمتظاهرين، إذ لم يفرِّق النظام بين الشيوخ والشباب وبين الرجال والنساء، فكانت فنون التعذيب تنفَّذ بعد إعطاء الضوء الأخضر من رأس النظام لتابعيه، الذين استطاع أن يدجِّنهم ويستعبدهم ليصبحوا يده التي تبطش دون رحمة أو شفقة، فانتهك باستهتاره بالنتائج التي آلت إليها جرائمه حقوق الإنسان عمداً، من دون إعطاء أيِّ قيمة للعقوبات الدولية التي يمكن أن تقع على نظامه.
إنَّ القمع والعنف الذي مارسه بشار الأسد للبقاء على رأس نظامه الفاسد يعود في جزء كبير منه إلى طفولته، فقد كان بشار في طفولته مقصياً عن اهتمام والده الذي كان يغدق اهتمامه ومحبته على ابنه المدلل باسل الأسد، والذي بدأ يعدُّه بعد ذلك الوقت ليكون رئيساً من بعده، وبالتالي لم تكن هناك علاقة ودية بينه وبين أبيه من جهة، وبينه وبين أخيه من جهة أخرى، إذ غلب الشعور بالقمع والسطوة على حضور والده في حياته، أمَّا الغيرة من شقيقه الأكبر فقد كانت سمة العلاقة التي تربط بينهما، لا سيما في ظلِّ الظهور الواضح للأخ الأكبر شعبياً، والغياب الكامل والمتعمَّد لبشار عن الساحة الشعبية. وبعد استقدام بشار اضطرارياً ليتم تجهيزه للحكم، بعد وفاة شقيقه، وجد الفرصة سانحة لتطفو عقده المكبوتة في لا شعوره منذ طفولته وحتى مرحلة الشباب على السطح، فكانت رغبته في امتلاك كلِّ شيء حُرم منه هي التي تستحوذ على سلوكياته وتصرفاته، إلى أن وصل به الأمر إلى مرحلة متقدِّمة من السادية، جعلته يتلَّذذ بما يقوم به من جرائم تحقِّق له انتصارات –حسب اعتقاده- وذلك بعد قيام الثورة والمطالبة برحيله عن الحكم.
هل زال الشعور بالخوف والقلق والترقُّب من حياة بشار الأسد بعد أن انتصر على شعبه بالدماء والقتل؟ وهل قادته ثقته الزائدة بقوته واعتقاده القاطع بديمومته إلى الاطمئنان وراحة البال؟
أمَّا القاعدة الأساسية التي كانت تتحكَّم بعلاقة بشار مع حاشيته كانت مذبذبة تقوم على عدم الثقة بالآخرين، وخاصة أولئك الذين لا ينتمون إلى طائفته، فكان الشك الدائم في ولاءات من حوله يدفعه إلى القلق والترقب وعدم الاطمئنان، وبالتالي فإنَّه كان يتعامل معهم تعاملاً حذراً تغلب عليه صفة المصلحة التي يحققها لاعب الأوراق من الورقة الرابحة والذي لا يتوانى فيها اللاعب من التخلُّص من الورقة المحروقة التي لا تحقق له أيَّ منفعة.
ونتساءل: هل زال الشعور بالخوف والقلق والترقُّب من حياة بشار الأسد بعد أن انتصر على شعبه بالدماء والقتل؟ وهل قادته ثقته الزائدة بقوته واعتقاده القاطع بديمومته إلى الاطمئنان وراحة البال؟ إنَّ المظهر الذي يحاول بشار الأسد دائماً أن يظهر به على أنه رئيس محبوب من قبل شعبه، وأنَّ ولاء شعبه له ولاء منبعه اختيارهم الحر له كرئيس يحكمهم تنسفه الأحداث التي تجري اليوم والمظاهرات التي عاد اشتعال فتيلها في السويداء وبعض المحافظات السورية ضد العنجهية العبثية الذي لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، بل سيأتي يوم ينتهي به هذا السرطان المستبد كما انتهى من قبله طغاة الأرض والمتجبِّرون فيها.