التقيت قبل أيام بسيدة مصرية مثقفة أتعرف إليها للمرة الأولى، وبالطبع، سوف يتحول الحديث عن سوريا مباشرة ما إن عرفت أنني سورية، أخبرتني أنها زارت سوريا مرة واحدة فقط في حياتها في نهاية تسعينيات القرن الماضي ووصفت لي مقدار السعادة الذي شعرت به وهي تزور المدن السورية: دمشق وحلب واللاذقية، وحكت لي كم كانت منبهرة بكل ما تراه هناك: البشر والطبيعة والانفتاح والحب الذي يحمله السوريون للمصريين، وبطبيعة الحال أخذ الكلام عن الطعام والمائدة السورية الجزء الأكبر من حديثها عن سوريا وتحدثنا عن تلاقح الحضارات قديما وحديثا وكيف أنه دائما ما كان الطعام هو أحد دلائل هذا التلاقح؟ ثم قالت لي إن البلاد ذات الحضارات العريقة مثل سوريا لا خوف عليها، سوف تعود للاستقرار مهما فتكوا بها ومهما تعرضت للمؤامرات؛ ثم أضافت أن هناك مخططا على ما يبدو للقضاء على الدول ذات الحضارات العريقة كسوريا ومصر ولبنان والعراق، لكن هذه الدول والمجتمعات سوف تنجو وسوف تعود للنهوض وتواصل ما انقطع من مسيرة حضاراتها.
من دون شك ثمة ما هو محق في حديث السيدة المصرية الطويل. فالدول ذات الحضارات العريقة لا يمكن أن تزول أو تنتهي من الوجود مهما تعرضت لحروب ومخاطر كبرى هددت وجودها؛ سوف تحتفظ بجذوة ما تبقيها على قيد الحياة، حتى لو بدا غير ذلك للجميع، وحتى لو أن اللحظة الراهنة تظهر عكس هذا. ذلك أن الحضارات القديمة تعرضت لهزات كبرى كادت معها أن تندثر تماما وتختفي عن الوجود لكنها قاومت وبقيت أوابدها شاهدة على وجودها عبر الزمن. لكننا لا نعرف عدد الضحايا التي ذهبت في سبيل بقاء آثار هذه الحضارات مستمرة حتى اللحظة. كل الحضارات الهائلة بناها البشر وكلها قامت على أكتاف وكاهل الفقراء والعامة بينما تسجل الحضارات باسم الملوك والحكام. من يعرف الآن أسماء باني الأهرامات أو عدد الذين لقوا حتوفهم وهم ينقلون الحجارة الضخمة لبناء هذه الأهرامات التي تعرف باسم الملوك الذين دفنوا بها؟ من يعرف أسماء العمال الذين بنوا بوابة بابل أو بوابة عشتار كما تعرف اليوم؟ من يعرف أسماء صناع الحرير ومخترعي اللون الأرجواني الذي اشتهرت به الحضارة الفينيقية؟ كم من الضحايا والمجهولين من عامة الشعب فقدوا حياتهم وعانوا الشقاء والذل في سبيل بناء الحضارات وفي سبيل بقائها طويلا في الزمن والتاريخ؟ تنسب الحضارات للحكام والملوك دائما وأبدا أما عموم الشعب فهم لطالما كانوا مجهولين ويعاملون كنكرات أمام الحكام العظماء.
الدول ذات الحضارات العريقة لا يمكن أن تزول أو تنتهي من الوجود مهما تعرضت لحروب ومخاطر كبرى هددت وجودها؛ سوف تحتفظ بجذوة ما تبقيها على قيد الحياة، حتى لو بدا غير ذلك للجميع، وحتى لو أن اللحظة الراهنة تظهر عكس هذا.
أفكر في سوريا وبما يحدث بها. فقدت سوريا منذ عام 2011 وحتى الآن أعدادا لا تحصى من خيرة أبنائها ممن ماتوا بطرق عديدة لكنها كلها نتيجة ما حدث في بداية 2011، أي نتيجة الثورة السورية. وحين نقول نتيجتها فهذا لا يعني أنها هي السبب، بل يعني أن صيرورتها هي من أدت إلى هذه النتيجة. مات سوريون بالمعتقلات نتيجة التعذيب، وماتوا إعداما داخل السجون وخارجها، وماتوا بالقصف والقنابل والتفجيرات والبراميل المتفجرة، ماتوا جوعا ومرضا من الحصار، وماتوا ذبحا وحرقا بمجازر لها صفة الطائفية، ماتوا قنصا برصاص سوريين مثلهم وبرصاص غرباء داخل البلد وخارجه، ماتوا غرقا وهم يهربون من الموت، أكلت بعضهم وحوش الغابات وهم يهربون من الموت، ماتوا من البرد في المخيمات وماتوا انتحارا نتيجة اليأس، ماتوا بجلطات بسبب القهر والعجز، ماتوا كي يبقى الحاكم حيث هو وهم يظنون أنهم يموتون في سبيل الوطن، ماتوا بكل الأسباب والطرق في سبيل بناء دولة حقيقية ومجتمع حقيقي يمكنه أن يقاوم الزمن ويمكن لآثاره أن تستمر إلى أمد طويل. هدا لم يحدث الآن، بل حدث عكسه تماما، تدمرت البلد وتدمر المجتمع وحتى الأوابد القديمة جرى تدميرها، ما بقي هو هيكل دولة وخريطة تدل عليها وحاكم مجنون وريث سلالة مجرمة، ستسمى المرحلة التاريخية هده باسمه دائما ولن نعرف مطلقا ما سوف يقوله التاريخ عنه، ذلك أننا لا ندري من يكتب التاريخ ولأي جهة يحسب، كل التاريخ الذي وصل لنا كتبه طرف ما منحاز، كتابة التاريخ عادة لا تكون حيادية، هي منحازة للأقوى وللأكثر نفوذا؛ التاريخ يكتبه الأثرياء، أثرياء السلطة وأثرياء النفوذ وأثرياء القوة، الضحايا لا يذكرهم التاريخ إلا بوصفهم أرقاما، لا ملامح لهم ولا سمات ولا صفات ولا نعوت ولا أسماء سوى اسم (ضحايا) ماتوا في سبيل هدف ما أو قوة ما أو قيمة ما.
حضاراتنا القديمة كطاقة وقوة (وليس كحجر) ستبقى وتستمر وتتجدد حين نصبح مجتمعات حرة وعادلة، ونحن الآن في أول الطريق، الحراك الذي حدث في 2011 هو دليل حياة، مهما كان الخراب الناتج عنه كبيرا.
بناء الحضارات هو قيمة حتما، والثورات قيمة، والشعوب حين تقرر الثورة فإن هدفها القريب ليس بناء حضارة، بل تحسين ظروف حياتها ونيل حرياتها المفقودة وبناء دول حقيقية وناجحة، وهذا بدوره سوف يؤدي مع الزمن إلى إعادة تشكيل حضارة جديدة تبنى على ما تراكم من القديم. لكن هل يستحق هذا الهدف كل هذه التضحيات والخسارات البشرية الكبرى؟ هل من العدالة أن يدفع البشر حيواتهم ثمن بناء دول وحضارات لأجيال قادمة؟ غالبا من أرى حين أفكر في هذا الموضوع، أرى أن حياة الفرد والأفراد هي قيمة من أعلى القيم وهي أثمن من كل القيم الأخرى، وما يتم دفع ثمنه من أرواح البشر ليس أغلى من البشر! صحيح أن الموت هو النهاية الحتمية للكائن الحي، لكن الصحيح أيضا أن من حق البشر، كل البشر والكائنات، أن تعيش دورة حياتها كاملة لا أن تموت لأن أحدا قرر استخدام حياتها كثمن لأحلامه الكبيرة في بناء دول أو حضارات أو غيرها.
قد تكون تلك معادلة صعبة، فما من حضارة تبنى دون دفع الثمن، وما من عيش كريم يناله البشر دون تضحيات كبرى قدمها من سبقوهم، البشر هم الضحايا وهم المستفيدون، كله آت منهم وكله يعود إليهم. ما الحل إذا كي تبنى حضارات وتتحقق العدالة الإنسانية دون دفع أثمان باهظة ودون أن يذهب ضحية ذلك ملايين البشر ودون أن يتحول هؤلاء الضحايا في عرف التاريخ إلى أرقام مجردة بلا أية حيثيات؟ في يقيني أن لا سبيل لذلك أبدا فطالما هناك ظلم في الحياة سوف يكون هناك حالمون بالعدالة، وطالما هنالك حالمون فسيوجد ضحايا حين تحدث الحركة الأولى في طريق تحقيق الحلم وتحويله إلى واقع معاش. حين أفكر الآن بسوريا وبكل ما حدث وأرى النتيجة الكارثية الحاصلة الراهنة أقول إن كل تلك التضحيات ذهبت هباء في سبيل اللاشيء، أو في سبيل الخراب العميم، لكن التغيرات الكبرى في الحياة لا تحدث خلال عقد من الزمن بل يلزمها عقودا طويلة كي تنجز وتتم، هذا ما يخبرنا عنه التاريخ وهذا ما تقوله الدول السابقة لنا في بناء الحضارات الجديدة والدول التي يتحقق فيها مقدار معقول من العدالة الاجتماعية والكثير من الحريات.
قلت للسيدة المصرية، سبب هذه التداعيات، في يقيني أن حضاراتنا القديمة كطاقة وقوة (وليس كحجر) ستبقى وتستمر وتتجدد حين نصبح مجتمعات حرة وعادلة، ونحن الآن في أول الطريق، الحراك الذي حدث في 2011 هو دليل حياة، مهما كان الخراب الناتج عنه كبيرا، لكن في أي حركة هناك حياة، وطالما هناك حياة فالتغيير سوف يحدث، أما الثبات فهو صفة الموت والموتى، في الموت لا شيء يتغير. نحن شعوب لا تزال حية وسنتغير ذات يوم.