في كتابه "مشكلات الدولة العثمانية" Sorularla Osmanlı İmparatorluğu، يذكر المؤرخ التركي المعاصر، إرهان أفيونجو، أن أحد أسباب انهيار الدولة العثمانية هو "المشكلة السكانية"، فقد كان لتزايد عدد السكان دور مؤثر في انتقال الإمارة العثمانية إلى إمبراطوية تمتد على ثلاث قارات، ولكن التفوق السكاني الذي كان يسير لصالح الدولة العثمانية انقلب ضدها، بدءا من القرن السابع عشر. فلم يرتفع عدد سكان الإمبراطورية العثمانية على نحو يوازي الارتفاع في أعداد سكان الدول الأوروبية التي دخلت الإمبراطورية في حروب معها.
فعشية الحرب العالمية الأولى، وصل عدد سكان روسيا إلى ما يقارب 175 مليون نسمة، وكان جيشها يتكون من 12 مليون عسكري، أما الدولة العثمانية فقد بلغ عدد سكانها 22 مليون شخص، ولكنها استطاعت بواسطة التعبئة الدينية والخدمة الإلزامية رفع عدد جيشها إلى أقل من ثلاثة ملايين عسكري، وهي نسبة توازي أكثر من عشرة بالمئة من عدد السكان.
كان وراء هذه التحولات الديمغرافية أسباب كثيرة، أهمها: سوء الإدارة الذي شاب الدولة العثمانية في فترة الضعف، وتقدم النظام الصحي في أوروبا بفعل التطور الطبي والعلمي، في الوقت الذي بقي فيه النظام الصحي في الدولة العثمانية كما كان عليه في القرون الوسطى، وكذلك الأمراض والمجاعات والأوبئة كالطاعون...إلخ.
منذ عام 2012م، حين بدا أن الأمور خرجت عن نطاق سيطرة النظام، سعى هذا الأخير إلى إفراغ المناطق الثائرة من سكانها، ودفعهم إلى الهجرة، وترك البلاد
عانت بلاد الشام في أواخر العهد العثماني أزمة اقتصادية رهيبة، أدت إلى دياسبورا (شتات) سوريا (كان معظمها من مسيحيي جبل لبنان) نحو الأمريكيتين. كان الفقر والجوع وسوء الأوضاع الاقتصادية عوامل أساسية وراء الدياسبورا السورية الأولى، التي تشبه في حجمها الدياسبورا السورية الثانية التي ما زالت فصولها مستمرة منذ عشر سنوات، والتي لا يبدو أي بصيص أمل لإنهائها.
إنصافا للحقيقة، فإن الدياسبورا السورية الحالية بدأت بعد عام تقريبا من بداية الثورة، فمنذ عام 2012م، حين بدا أن الأمور خرجت عن نطاق سيطرة النظام، سعى هذا الأخير إلى إفراغ المناطق الثائرة من سكانها، ودفعهم إلى الهجرة، وترك البلاد. ولكن آلة النظام العسكرية لم يكن لديها من القوة التدميرية ما يكفي لإحداث الدمار والقتل الذي يدفع موجات كبيرة من الناس إلى ترك قراهم ومدنهم، على الرغم من أنه لم يدخر أي وسيلة لإجبارهم على النزوح. لكن الأمر تغير كثيرا مع التوجه الإيراني الذي عمل بمساعدة أطراف إقليمية محسوبة على المعارضة، على إحداث تغيير ديمغرافي في المناطق التي كان يستعيد السيطرة عليها بفعل الآلة الحربية الروسية، والميليشيات الطائفية الشيعية. كانت سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها الحملة الروسية تستهدف قتل أكثر عدد ممكن من البشر أولا، وحرمان الثورة من الخزان البشري المناصر لها ثانيا، بتدمير وسائل الحياة واستهداف المراكز المدنية، ولهذا كانت القوات الروسية تتعمد قصف الأحياء السكانية والأسواق والمراكز الصحية لإجبار السكان على النزوح، وهو ما أدى فعلا إلى موجات نزوح ولجوء كبيرة بعد دخول الآلة العسكرية الروسية في خريف عام 2015م.
ظاهريا، كان كل هذا التهجير يجري لصالح النظام، فالنزوح كان يستهدف الحاضنة الشعبية للثورة، ودفعها إلى مغادرة البلاد، أو الانتقال إلى مناطق منزوعة الدسم عسكريا، وخصوصا مناطق درع الفرات وغضن الزيتون ونبع السلام، الأمر الذي يعني تحييد العنصر المقاتل على أقل تقدير. أما النظام فقد كان يغطي النقص البشري في صفوفه بالاستعانة بالميليشيات الطائفية القادمة من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان.
مع تراجع الأعمال العسكرية، صحا النظام منذ عام 2019م تقريبا على حقيقة أن سلاح التهجير الذي كان يستعمله ضد قوى الثورة ارتد إليه، فموجات الهجرة التي كانت سابقا تقتصر على المناطق التي خرجت على النظام ثم استعاد السيطرة عليها، بدأت تشمل المناطق التي لم تشهد أعمالا عسكرية بما فيها حواضن النظام. لم تكن موجة الهجرة هذه بسبب الرغبة في الانتقال إلى ضفة الثورة، لأن الموجة الجديدة هي من الرماديين أو الموالين.
كان الأمل يحدو الفئة التي وقفت مع النظام أن تقبض ثمن وقوفها معه، ولكنها صحت على حقيقة أن خزانة النظام فارغة إلا من قدرته على القتل، لقد تحول النظام إلى ميليشيا مثله مثل الميليشيات الأخرى، وإن كان أفضلها من ناحية الإدارة والتنظيم. ولهذا بدأت موجة نزوح من مناطق النظام إلى خارج البلاد أولا، وإلى مناطق الثورة في الشمال السوري، ومناطق شرق الفرات ثانيا. الأمر الذي قرع ناقوس الخطر أمام النظام لا محافظة على العنصر البشري والنسيج الاجتماعي، وإنما لحاجته إلى هذا العنصر. فالتغيرات الديمغرافية في مناطق النظام منذ عام 2019م تستهدف فئة الشباب على نحو الخصوص، الأمر الذي يعني في المقام الأول تناقصا حادا في الفئة العمرية المنتجة، في مقابل بقاء الفئة العاجزة عن العمل كالشيوخ، ناهيك طبعا عن الفئات التي لا يسمح لها وضعها الاجتماعي أو الاقتصادي بالهروب من البلاد، أي تلك الفئات التي تحتاج إلى من يعيلها وينفق عليها. بمعنى من المعاني تحولت سوريا تحت النظام إلى ملجأ للأيتام، ودار للعجزة وكبار السن، ومكان للعاطلين عن العمل والفتيات اللواتي ينتظرن "ابن البلد" الذي هرب وراء البحار ليتقدم أهله لخطبتهن. هل يجوز أن نذكر هنا الصور القادمة من مدرجات الجامعات، الصور التي يجد فيها المدقق بعد عناء شابا ضائعا وسط عشرات الفتيات؟!
وعلى خلاف ما يقوله كثير من المعارضين من أن النظام لا يرغب بعودة المهاجرين أو النازحين إلى مناطقهم، فإني أعتقد أن العكس هو الصحيح. أجل، لقد سعى النظام بكل قوة في مرحلة ضعفه العسكري إلى القتل على الهوية، بغية إرهاب الناس للخروج من المناطق وإفراغها، ثم لجأ في المرحلة التالية إلى التدمير الممنهج الواسع، ولكن النظام أدرك في السنوات الثلاث الأخيرة، أي: منذ عام 2019م، أن "انتصاره" كان بلا معنى.
جهاز الدولة البيروقراطي يحتاج إلى ضرائب تقوم بتشغيل آلة الدولة وعسكرها. وهؤلاء الذين يجب أن يدفعوا الضرائب أصبحوا خارج البلاد أو تحولوا إلى مناطق المعارضة
إن الخزان البشري الذي يستند إليه النظام في تثبيت حكمه هو مستودع بشري طائفي، وإذا تركنا جانبا أعداد قتلاه من تلك البيئة، وما يلزمه من عسكر للمحافظة على الحكم، فإن البيئة الحاضنة لم تكن بيئة منتجة بالمعنى الاقتصادي والصناعي، فلا هي مؤهلة للتجارة ولا للصناعة، لأن عقودا طويلة من الاستيلاء على الدولة حولتها إلى بيئة مستهلكة، تنتظر الوظيفة الحكومية أو التطوع في الجيش، أو العيش على الفساد الذي توفره لها الامتيازات التي تحصل عليها. فجهاز الدولة البيروقراطي يحتاج إلى ضرائب تقوم بتشغيل آلة الدولة وعسكرها. وهؤلاء الذين يجب أن يدفعوا الضرائب أصبحوا خارج البلاد أو تحولوا إلى مناطق المعارضة، فأعداد متزايدة من الشباب تهرب إلى هذه المناطق خوفا من الالتحاق بالخدمة العسكرية، أو بحثا عن فرصة عمل تسد به أبسط حاجاتها. إن عودة اللاجئين من منظور النظام، إضافة إلى أنها تعني إعادة تأهيل النظام سياسيا، ستعيد "الأقنان" إلى المزرعة ليعملوا مرة أخرى في خدمة السيد -النظام، فاقتصاد الحرب القائم على النهب والتعفيش وتجارة المخدرات، وكذلك المساعدات التي يتلقاها النظام من حلفائه، كل هذا لن يستمر إلى الأبد، وهو أمر يعرف النظام خطره، فحين تنضب تلك الموارد سيتحلل النظام نهائيا.
في ضوء التغير المناخي وانعكاساته التي رأيناها في موجة جفاف تضرب كل دول المنطقة، وتجلت بوضوح في تراجع خطير في منسوب نهر كالفرات، يبدو أن الأفق لا يحمل معه الكثير من الأمل، إذ تشير الإحصائيات الاقتصادية إلى تقلص مساحة الأراضي الصالح للزراعة بنسبة 23 في المئة في سوريا، وانهيار القطاع الزراعي، وخروج الكثير من رؤوس الأموال في الأشهر الأخيرة، وكل هذا يقول شيئا واحدا: لا تستغربوا إن صحونا في السنوات القادمة على مدن فارغة إلا من العجائز والأشباح. في تلك اللحظة سيكون النظام قد أنجز مهمته الموكلة إليه من جانب مشغليه، إخلاء البلاد من سكانها.