كتبت الإعلامية التركية المقربة من الحكم فاطمة أوزقان في زاويتها بصحيفة "ستار" مادة تفصيلية تتعلق بأولويات أنقرة السورية في هذه الآونة، معلنة أولاً عدم وجود أي اتصال على المستوى الأمني والعسكري بين أنقرة ونظام الأسد، مما يعتبر نفياً لما ذكرته صحيفة "أيدنلك" اليسارية المنفتحة على دمشق والرافضة لسياسة حزب العدالة السورية، والتي قالت إن وفدين عسكريين من تركيا ونظام الأسد أجريا مفاوضات في قاعدة "حميميم" الجوية بوساطة روسية.
لم نقرأ بعد أي تعقيب تركي رسمي حول ما ورد على لسان الصحيفتين، لكن تسريبات الجانبين تلتقي عند قناعة أن الأبواب مفتوحة حول احتمال الذهاب من جديد إلى طاولة الحوار بين أنقرة والنظام في دمشق نتيجة ظروف فرضتها المتغيرات الإقليمية الحاصلة. الغامض هو شكل الحوار وترتيب جدول أعمال أولوياته: صيغة الأستانة من جديد، وهي التي لم تقدم شيئاً في مسار الحلحلة؟ أم الطاولة الرباعية بمشاركة النظام كما تريد موسكو لتسجيل اختراق في الملف السوري يقوي موقفها في مواجهة التموضع الأميركي الأخير؟ فما الذي يجري التحضير له على خط أنقرة موسكو وطهران على هامش اجتماعات "منظمة شنغهاي" المرتقبة في الأستانة؟ وهل هناك جهود إقليمية تبذل لتفعيل الحوار بين أنقرة ودمشق أم أن الأمر يقتصر على محاولة عراقية مدعومة من قبل الجانب الروسي لم نعرف نتائجها بعد؟
مصادر "أيدنلك" هي سورية من دمشق، ومصادر "ستار" الصحيفة المقربة من الحكم هي تركية رفيعة. لذلك بات على طرفي النقيض التركيين في نقل الرسائل ونشرها، تقديم الأدلة والإثباتات التي تؤكد صحة ما يقال. هناك كثير من التباعد بين أولويات تركيا في الملف السوري لناحية ما تقوله "أيدنلك" وما تنقله الكاتبة أوزقان حول فرص الحوار ومكانه. الأولى تتوقف عند الجهود العراقية المبذولة على طريق الوساطة بين أنقرة ودمشق واحتمال عقد لقاء ثنائي في بغداد، والثانية تتجاهل تماماً الجهود العراقية وتعطي الأولوية لفرصة العودة إلى اجتماعات الطاولة الرباعية التي وصلت إلى طريق مسدود نتيجة الشروط المسبقة التي يطرحها النظام في دمشق.
الأولى تستقوي بذريعة ضرورة عدم التدخل التركي بالشأن السوري والتفاهم على ذلك مع النظام. والثانية تبرز أمن تركيا وتشير إلى شرطين أساسيين تتمسك بهما أنقرة على طريق الحوار مع دمشق: مكافحة إرهاب مجموعات حزب العمال الكردستاني وتسهيل عودة اللاجئين إلى أراضيهم، متجاهلة حجم التداخل في الملفات السياسية والأمنية والقرارات الأممية الواجب تنفيذها على مسار التفاوض السياسي والإعداد لدستور عصري جديد وإجراء انتخابات عادلة تفتح الطريق أمام المرحلة الانتقالية في البلاد.
تسريبات الجانبين تلتقي عند قناعة أن الأبواب مفتوحة حول احتمال الذهاب من جديد إلى طاولة الحوار بين أنقرة والنظام في دمشق نتيجة ظروف فرضتها المتغيرات الإقليمية الحاصلة
المستغرب في ما كتبته أوزقان هو الحديث عن القلق التركي من التقارب الحاصل بين النظام وقسد بضوء أخضر أميركي. هل لطهران أي دور في ذلك وهي التي ذكرت التقارير أن ميليشياتها في سوريا تنسق عسكرياً ولوجستياً مع مجموعات قسد وعناصر "حزب العمال الكردستاني" وتزودهم بأسلحة متطورة بمعرفة إيران وموافقتها؟ وهل تحاول إيران أن تفعل ذلك ردًا على التقارب التركي العراقي وتجميد الحوار الروسي الإيراني في سوريا وشعورها أنها قد تخرج الخاسر والمتضرر الأول وعليها أن تكرر تفاهماتها مع واشنطن كما حدث في العراق عند الانسحاب العسكري الأميركي من هناك؟
احتمال العودة إلى طاولة التفاوض بين أنقرة والنظام في دمشق قائم بحسب أكثر من مؤشر سياسي وميداني وإقليمي. نحن لم نقرأ بعد أي تعقيب رسمي مباشر على تصريحات دولت بهشلي حليف أردوغان وهو يدعو للتنسيق بين أنقرة والنظام في دمشق للقيام بعملية عسكرية مشتركة ضد "قسد". ولم نتابع أي موقف أميركي رسمي حقيقي حيال إصرار "قسد" على الوصول إلى ما تريده في شرقي الفرات. رسالة أنقرة الأميركية وجهت قبل أيام لجيك سوليفان أقرب المستشارين للرئيس بايدن: "تهتمون بما يجري على الأرض ميدانياً وتتناسون المشروع السياسي لقسد في سوريا".
فرص عودة الحوار بين أنقرة والنظام السوري، قد يحركها تمسك واشنطن بدعم سيناريو التقارب بين "قسد" ودمشق. وسياسة واشنطن السورية وتمسكها بتجاهل ما يجري في شرق الفرات. صحيح أن أمن الحدود الجنوبية لتركيا له الأولوية في سياسة أنقرة السورية. وربما قد تقرب تطورات المشهد في شرق الفرات بين أنقرة ودمشق. إلا أن لعبة التوازنات والمتغيرات الإقليمية في التعامل مع الملف لها ثقلها ودورها الذي سيدفع القيادة السياسية التركية لمراجعة كثير من مواقفها وقراراتها هناك.
أميركا لن تنسحب قبل اتضاح ما الذي ستفعله روسيا وإيران في سوريا. وطهران لن تنسحب إلا بعد التأكد أن مصالحها الأمنية والسياسية والعسكرية باتت محمية. وروسيا الممسكة بكثير من خيوط اللعبة تريد المساومة عبر الملف السوري مع أكثر من لاعب في ملفات إقليمية حيث تتداخل وتتشابك المصالح. فلماذا تصغي أنقرة لما يقوله النظام في دمشق حول ضرورة انسحابها قبل الدخول في أي حوار مباشر؟
يرى الخبير الروسي في شؤون الشرق الأوسط أنطون مارداسوف، أن تركيا ستجري حوارًا أكثر تشددًا مع دمشق في إطار التفاوض من أجل تطبيع العلاقات. "الوضع اليوم تغير عن السابق. كان فريق أردوغان مهتمًا بنوع من التطبيع مع الأسد، بسبب ارتدادات ملف اللجوء، لكن النظام في دمشق أخطأ في تقدير مدى استعداد أنقرة لتقديم التنازلات فأضاع فرصته".
متى تتراجع أنقرة عن قرار رفض الذهاب مجدداً إلى الطاولة الرباعية المجمدة منذ أشهر طويلة؟ عندما تتأكد أن واشنطن متمسكة بما يقوله ويريده شريكها في شرقي الفرات. وعندما ترى أن النظام ذهب وراء التخلي عن شروطه المسبقة التي أعلنها قبل أي حوار مع الجانب التركي. وعندما تكتشف وجود ليونة روسية إيرانية في التعامل مع القرارات الأممية ليس إرضاء لأميركا بل لفتح الطريق أمام المرحلة الانتقالية في سوريا. غير ذلك يعني أن كل الاتصالات والجهود المبذولة لن تحقق أي اختراق حقيقي باتجاه الحلحلة في سوريا.
المفرح والمشجع هو أنه في اللحظات التي كان أكثر من لاعب محلي وإقليمي يستعد لسؤال أين قوى المعارضة السورية وما هو موقفها حيال كل ما يجري، خصوصاً على ضوء النقاشات والاستطلاعات التي تتحدث عن وضع اللاجئ في دول الجوار السوري ومحاولة البعض تبرير التحول في مواقفه المحتملة حيال الملف السوري، جاء بيان "هيئة التفاوض السورية" بمناسبة اليوم العالمي للاجئين ليؤكد من جديد أن الحل السياسي وفق القرارات الدولية هو الضمان الوحيد لبيئة آمنة وكريمة لعودة اللاجئين السوريين، الذين يواجهون "أكبر موجة لجوء ونزوح إنساني لشعب في التاريخ المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية .. وملايين السوريين يعيشون في بلدان لجوئهم يُعانون من صعوبات الاندماج، ومن التمييز وأحياناً العنصرية، ويجابهون مخططات لإعادتهم قسرياً إلى سوريا .. وكلهم أمل أن يحدث التغيير السياسي المنشود والمنسجم مع القرارات الدولية، وخاصة بيان جنيف والقرارين الأمميين 2118 و2254، فهو الحل الوحيد الذي يضمن بيئة آمنة لعودة اللاجئين السوريين بكرامة وحرية إلى بلداتهم ومنازلهم".