لا بدّ أن يأتي الخراب كاملاً ومثالياً برعاية النظام السوري، الذي تلاعب بالثقافة والفنّون والموسيقا والسينما والمسرح، لكونها آليات المقاومة السلمية، المؤثرة والعبقرية في آن. ولا نبالغ إذ نقول إنّ المكتبات، كحالة وجدانية وثقافية، والتي غدت نوافذ الضوء الوحيدة المتبقية في بلادٍ تختلط فيها الحقائق، تُهمل بشكل مقصود لأنها لم تساهم يوماً في إضفاء الشرعية على السلطة الحاكمة، عن طريق نشر الأيديولوجيات السياسية والثقافية التي تنتج مجتمعاً فارغاً، يُعاد تدويره بشكلٍ مستمر بما يدعم مناعتها وسطوتها. ولا شكّ أن إغلاق مكتبة (نوبل) مؤخراً، والتي مثلت على مدى عقود جزءاً هاماً من تاريخ دمشق الثقافي، أحدث عطباً جسيماً في رئة الحياة السورية. كما فعلت في وقت سابق مكتبة (دار اليقظة العربية) التي تحولت إلى متجر أحذية، وكانت من أهم دور النشر في المنطقة العربية، إذ ما تزال تعيش في ذاكرة أجيال متلاحقة عناوين متميزة أصدرتها الدار خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. قبلها بسنوات رفعت مكتبة (ميسلون) راية الهزيمة أمام غزو العولمة وثقافة الاستهلاك الجديدة، لتتحول إلى مركز صرافة، تبعها إغلاق مكتبة (الزهراء) لتتحول بدورها إلى سوبر ماركت.
وظاهرة سقوط المكتبات الدمشقية العريقة الواحدة تلو الأخرى، تثير حزناً عاماً في الشارع السوري، لكن لا حول ولا قوّة
وظاهرة سقوط المكتبات الدمشقية العريقة الواحدة تلو الأخرى، تثير حزناً عاماً في الشارع السوري، لكن لا حول ولا قوّة، فإغلاقها يعتبر كارثة وطنية حقيقية تزيد من وطأة التحديات التي تعكر صفو العيش السوري. ولم تكن مكتبتا "ميسلون" و"العائلة" اللتان أغلقتا قبل الحرب جرس إنذار كافٍ، لتتبعهما بعد الحرب مكتبة "أطلس" التي صارت متجراً للملابس. أما مكتبة "تنبكجي"، وهي واحدة من أعرق المكتبات، فما زالت تقاوم بتحويل واجهتها لبيع القرطاسية ودفاتر التلوين وأكواب حفظ المشروبات الساخنة، وفي ذلك ربما محاولة أخيرة لحماية المكتبة من الإفلاس، قبل الغوص في وحل النهاية.
وإذا ما جاورنا الحقيقة في إحدى جوانبها، القراءة بحدّ ذاتها لم تكن ظاهرة عامة في المجتمع السوري خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، إذ اعتبرت من الرفاهيات بالنسبة لشريحة واسعة من السوريين، بعدما فشلت في التحوّل إلى مصدر غنى يتكامل مع أولويات الحياة الأخرى في دولة ارتدت إلى المستويات الدنيا بعدما كان الشأن الثقافي خبزها وملحها. وكان كثيرون يرون أنّ القراءة أشدّ أشكال الحياة المنتجة وضوحاً، هذه القناعة تدهورت بدورها مع تراجع الإيمان بقدرة المثقف على التأثير في الواقع. واختفاء أهم المكتبات في أرجاء البلاد لم يكن رهناً باندلاع الحرب السورية، بل العديد منها اختفى حتّى قبل وقوعها بفترة طويلة، حيث انتهك النظام السوري كلّ الحدود المتخيلة لتصدير حملات "الإبادة" الممنهجة في تدمير الكتب والمكتبات. وهل ننسى هدم أقدم ساحات العاصمة السورية، "ساحة المسكيّة"، التي ضمت عشرات الدكاكين والمحالّ لتجارة الكتب وكلّ ما له علاقة بالثقافة والمثقفين، بحجة إظهار جدران الجامع الأموي وترميمها؟. ولم تقتصر عمليات الإبادة على الهدم الصريح، بل أيضاً عبر القوانين الرقابية التي أدّت مع مرور الزمن إلى مجتمع مستقيل بلا ملامح ثقافية. فمثلاً كانت الرقابة تخفي كتاباً من الأسواق، وتسمح ببيع كلّ ما هو مزوّر أو منسوخ بشكل غير نظامي. وكان يتمّ التحايل عليها بتغليف الكتب بورق الجرائد وتهريبها سراً من بيروت، وكان مجرد وصولها دمشق شكلاً من أشكال المقاومة والانتصار. لكن في عهد الأسد الابن تمّ التغاضي نسبياً عن بعض الكتب المهرّبة وليس الأمر ناجماً عن انفتاح سياسي بحت، إنما للقناعة المطلقة بأن كلمة المثقف لا تخيف النظام الجديد أو شبكاته الاقتصادية المافياوية مقارنة بأيام الأب وشبكاته الحزبية والعسكرية.
فمثلاً كانت الرقابة تخفي كتاباً من الأسواق، وتسمح ببيع كلّ ما هو مزوّر أو منسوخ بشكل غير نظامي. وكان يتمّ التحايل عليها بتغليف الكتب بورق الجرائد وتهريبها سراً من بيروت، وكان مجرد وصولها دمشق شكلاً من أشكال المقاومة والانتصار
ما يثير الاستغراب حقاً وجود مواد ذات محتوى زئبقي ضمن قانون المطبوعات السوري، تندرج تحتها سلسلة كاملة من الممنوعات والمحرمات، تفتح الباب على جميع أشكال التأويل التعسفي، وتترتب عليهما غرامات وعقوبات تصل إلى حدّ حبس القائمين على المادة المطبوعة. وفي العقد الأخير، على وجه الخصوص، كان عالم المكتبات العامة والخاصة ينحسر بسبب ما فُسّر بأنه تغيّر جذري في اهتمامات القارئ السوري، وعدم اكتراث الجيل الجديد بعالم القراءة والأفكار، وهذا طبيعي بحكم أنّ علاقة السوري الأولى مع الكتاب تعود إلى المناهج الرسمية، بدءاً من نسخها القديمة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت، وصولاً إلى تطويراتها المتعددة في الألفية الثانية، ومهمتها الأساسية خلق أجيال تحمل فكراً أحادياً مسطحاً، لتكوين نسخ من مواطنين لا يمكنهم النظر خارج حدود سرديات النظام الرسمية. هذه العلاقة ولّدت علاقة كره واضحة بين الطالب وبين الكتاب المدرسي ومنذ نعومة أظافره، وأصبح تمزيقه في آخر يوم من كلّ عام دراسي طقساً متبعاً. وتكرار المذبحة الورقية سنوياً له مدلولات خطيرة تعكس التحدي الذي يضمره الطالب تجاه مؤسسات التعليم الرسمي بينما يعلو صوته مردّداً (خلص الكابوس).
هذه العلاقة ولّدت علاقة كره واضحة بين الطالب وبين الكتاب المدرسي ومنذ نعومة أظافره، وأصبح تمزيقه في آخر يوم من كلّ عام دراسي طقساً متبعاً
لا شكّ أجهزت الحرب السورية على كثير من دور النشر والمطابع ومستودعات الكتب، وأبدلت هوية عشرات المكتبات فتحولت لمقاهٍ ومحال تجارية، أو لجأت لبيع القرطاسية والألعاب والهدايا لتقاوم الإفلاس، فيما تراجع حجم الإنتاج والتوزيع في دور النشر، لارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة والتجليد بشكل خيالي. أما ضغوط الحياة اليومية التي أفرزتها الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، كذلك التفكير في الحدث السوري المعقّد، والدخول في دهاليزه السياسية المعتمة، فساهموا جميعاً في التأثير على عادات القراءة التي تحتاج إلى تركيز كبير وذهن صافٍ وراحة نفسية، وهو ما لم يعد في متناول القارئ السوري. على المقلب الآخر تضخمت مظاهر القراءة "للمهتمين" في اتجاه استهلاكي تجاري، وشكلت وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث الإلكترونية مصدراً لما يمكن أن نسميه الثقافة السريعة والسهلة، دون معيار ثقافي محدد، وافترشت مئات العناوين شوارع دمشق، بدءاً من جسر الرئيس إلى البرامكة فالحلبوني وصولاً إلى سور قلعة دمشق، بعناوين متنوعة وأسعار زهيدة. على هذا تراجع حضور المكتبة بشكلها الكلاسيكي وغدا عددها قليلاً جداً، يأكل الغبار رفوفها ويندر زبائنها، الذين كانوا بغالبيتهم يزورونها للاستفسار والسؤال أكثر من الشراء.
التفكير في الحدث السوري المعقّد، والدخول في دهاليزه السياسية المعتمة، ساهما في التأثير على عادات القراءة التي تحتاج إلى تركيز كبير وذهن صافٍ وراحة نفسية
بطبيعة الحال الكتاب الذي شكّل العامل الأول في تكوين أخلاق الناس ووعيهم وسلوكياتهم تراجعت أهميته ليصبح نوعاً من الكماليات، ما أنتج أفراداً يائسين على جميع المستويات. ففي ظلّ تدهور الواقع المعيشي والغرق في مستنقع اليأس والمجهول، أصبح شراء الكتاب نوعاً من الترف والبذخ، فالثقافة في زمن الجوع لا يمكن أن تصبح بديلاً موضوعياً عن رغيف الخبز. وزاد الطين بلّة حدوث تغييرات كبيرة على جغرافية وجود المثقفين، بعد حدوث حركة نزوح وهجرة كبيرة للمؤثرين بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية المضطربة. والحال على هذه الدرجة من الفساد والإفساد تطرح السؤال الأهم في التراجيديا السورية: هل سيعود يوماً ما زمن الأحلام الكبرى الذي اشتهر بسحر المظهر الكلاسيكي للثقافة في بلدٍ صدّر أوّل أبجدية للعالم؟ زمن كان لا يكاد يخلو حيّ أو شارع فيه من مكتبةٍ تزخر بآخر ما طُبع ونُشر. زمن آمن فيه السوريون حقاً بأنّ المكتبات رئات الحياة، وأنّ بلاداً تعرف كيف تقرأ جيداً لا يقربها القتلة أو الطغاة.