يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن العلاقات التركية الروسية لا تسير من دون توتر بين الحين والآخر لكن مؤسساتنا في البلدين تنجح سريعا في معالجة أسباب الخلاف. ترحيب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنتائج محادثات سوتشي ووصفها بالمثمرة يعكس حقيقة أن لقاء الساعات الثلاث الثنائي كان بهدف التفاوض حول ملفات ثنائية وإقليمية تعني البلدين. وأن المقايضات شملت سوريا والقوقاز والبلقان وأفغانستان وليبيا والبحر الأسود وشرقي المتوسط وربما قد تكون وصلت إلى العلاقة التركية بمنظمة شنغهاي التي التحقت بها إيران مؤخرا.
طاولة سوتشي سبقها حراك تركي روسي بأكثر من اتجاه بهدف الاستعداد لحسم الأمور: لقاءات أميركية روسية وأميركية تركية. دعوة الأسد إلى موسكو. ما قيل حول لقاء استخباراتي بين هاقان فيدان وعلي مملوك. تحركات مكوكية لوفود قسد على خط موسكو وواشنطن. اجتماعات مكثفة بين القيادات التركية وقيادات المعارضة السورية والمحادثات الروسية مع مسؤولين إسرائيليين وأوروبيين وعرب كلها ضمن الحراك المعلن عنه فقط.
بوتين ناقش مع أردوغان التصور الروسي الجديد باتجاه إيجاد صيغة تسوية أشار إليها الممثل الأممي بيدرسن وهو يتحدث عن الشق السوري في قمة سوتشي
قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إن هدف أنقرة هو العودة إلى الهدوء على جبهات إدلب التزاما بالاتفاقيات المعلنة قبل عامين. لكن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو كان أكثر وضوحا وشفافية حين أعلن أن هدف تركيا في القمة هو بحث تفاصيل الملف السوري بأكمله. ما يقلق أنقرة اليوم هو شكل الحل في سوريا ومدى استعداد موسكو لطرح التسوية هناك نيابة عن الكثيرين بعدما حصلت على التفويض اللازم من قبل أكثر من لاعب محلي وإقليمي. بوتين ناقش مع أردوغان التصور الروسي الجديد باتجاه إيجاد صيغة تسوية أشار إليها الممثل الأممي بيدرسن وهو يتحدث عن الشق السوري في قمة سوتشي. الطرح الروسي يهدف لفتح الطريق أمام مرحلة انتقالية لا تستبعد الأسد عن خارطة الحل والتسويات التي ستشمل الهدنة الكاملة على الجبهات وتسريع الحوار السوري بضمانات أممية روسية أميركية تركية عربية أوروبية وتشكيل لجان عمل وطنية تشرف على تنفيذ المرحلة الانتقالية مع الاستفادة من النموذج الليبي الذي نجح حتى الآن في تقديم صيغ الحوار على التصعيد والحسم العسكري.
أردوغان كان يعرف وهو في طريقه إلى سوتشي أن بوتين سيذكره بملفات التجارة والسياحة والغاز وخطوط الطاقة وحاجة تركيا إلى التنسيق مع موسكو إذا ما كانت تريد الخروج من أزماتها الاقتصادية والمالية. كان يعرف أيضا أن بوتين يريد أن يلعب الورقة الإيرانية والكردية والعربية والإسرائيلية والأميركية إلى حد ما وهو يحاور أردوغان. والرئيس التركي بالمقابل كان يلوح بوقوف المجتمع الدولي إلى جانبه في ملف اللجوء وضرورة معالجته وبأوراق الثقل الميداني والعسكري التركي في شمال سوريا بالتنسيق مع الفصائل وقوى المعارضة وسيناريو توسيع رقعة العمليات العسكرية التركية إذا لم يؤخذ ما تقوله وتريده أنقرة بعين الاعتبار.
لم يشأ الرئيس الأميركي جو بايدن الاجتماع بنظيره التركي خلال وجود الأخير في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة كي لا يمنحه الدعم والثقل السياسي الذي يحتاجه وهو في طريقه إلى سوتشي. هو فعل العكس تماما. قال إن أية اتفاقيات تركية روسية حول صفقة صواريخ جديدة ستفعل العقوبات مرة أخرى ضد أنقرة. لكن أردوغان وكما يبدو سيذهب إلى روما في نهاية الشهر الحالي للمشاركة في قمة مجموعة الدول العشرين وربما للقاء بايدن وهو مزود بما قدمه له نظيره الروسي من تفاهمات وفرص في قضايا ثنائية وإقليمية تدفعه للتمسك بما يقوله في صفقة صواريخ إس 400 وحول إبعاد أنقرة عن برنامج المقاتلة إف 35 و" الدعم الأميركي لمجموعات إرهابية" تتحرك في شرقي سوريا وشمالي العراق عبر بريت ماكغورك منسق السياسة الأميركية في الشرق الأوسط الذي نجحت أنقرة في إبعاده عن الملف السوري لسنوات ثم أعاده بايدن مرة أخرى إلى الواجهة الكردية وبصلاحيات أوسع.
أعلنت الإدارة الأميركية قبل أيام رفضها لأي تطبيع أو حوار مع نظام الأسد أو رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. واشنطن نفسها استقبلت مؤخرا وفودا محسوبة على "قسد" و"مسد" وجددت تمسكها بمواصلة تدريب عناصر وكوادر هذه المجموعات وتخصيص الأموال لها تحت ذريعة محاربة داعش التي لم تعد موجودة في شرق الفرات. أميركا تريد الحفاظ على ورقتها الوحيدة في سوريا وهي تحاور موسكو وأنقرة. تريد أن تقول إن ذلك لن يعني قبولها بالعرض الروسي في تعويم الأسد أو بما تقوله أنقرة حول التفاهم معها في شرق الفرات. لكنها ستدعم خطة تحريك المرحلة الانتقالية في سوريا بعيدا عن خيارات الحسم العسكري وتسهيلها والدليل أنها هي التي خرقت قانون قيصر الذي فرضته عبر تسهيل التفاهمات السورية الأردنية المصرية.
صحيح أن أردوغان اقترح توسيع رقعة التعاون باتجاه إنشاء محطات طاقة تضاف إلى محطة آق كويو في مرسين التي سيتم تدشين المرحلة الأولى منها بعد عامين. وصحيح أن بوتين ذكر بأرقام الموسم السياحي التركي التي لعبت روسيا دورا كبيرا في إنعاشه هذا العام. لكن القاعدة الاستراتيجية الجديدة المعتمدة في مسار العلاقات التركية الروسية ستكون إعطاء الأولوية لتسريع الحلول في أزمات إقليمية تعنيهما لأن ذلك هو الداعم الحقيقي لتفعيل العلاقات الثنائية. كان السؤال بالنسبة لواشنطن هو البحث عن شكل ومستقبل العلاقات التركية الأميركية لكن ما سيحاول بايدن معرفته الآن هو أين وكيف سيكون شكل الصفقات التركية الروسية ليعرف كيف يتعامل مع أنقرة وموسكو.
المعادلة بالنسبة لتركيا لم تعد البحث عن مصدر الثقة في إطار الخيار بين واشنطن وموسكو. لكل طرف موقعه وأهميته ودوره لكن الجديد هو صعود العلاقات التركية الروسية في هذه المرحلة وتقدمها ثنائيا وإقليميا على حساب تدهور وتراجع العلاقات التركية الأميركية. واشنطن لعبت أوراقا تتعارض مع ما تقوله وتريده أنقرة وموسكو استغلت باحتراف تدهور العلاقات بين الجانبين التركي والأميركي خصوصا بعد حادثة إسقاط مقاتلتها عام 2015 ومقتل سفيرها أندريه كارلوف في كانون الأول 2016 وأنقرة أعطتها كل ما تريده من فرص طالما أن المصالح المشتركة ستكون محمية تجاريا واستراتيجيا في القوقاز والقرم وأسيا الوسطى والبلقان والبحر الأسود ونقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
الرئيس الروسي أطلع أردوغان على نتائج محادثاته الأخيرة مع بشار الأسد وحصيلة المحادثات الأميركية الروسية السياسية والعسكرية بشقها السوري أيضا
أردوغان في سوتشي بدعوة من نظيره الروسي ولكن لا أحد يهتم بمن وجه الدعوة لأن كلا الرئيسين كان يريد ويستعد لهذه القمة الضرورية منذ أشهر. ليست من النوادر أن تعقد قمم ثنائية بشكل منفرد ومن دون حضور مسؤولين آخرين سياسيين أو عسكريين. لكن أردوغان الذي اختار أن يصطحب معه هاقان فيدان وإبراهيم قالين يعرف جيدا لماذا يفعل ذلك. هناك لقاء بين فيدان ومملوك من المحتمل أن يكون قد تم وأن أردوغان يريد أن يسمع بوتين مباشرة رأي فيدان بنتائج اللقاء. وهناك لقاء ثنائي تم بين قالين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان في واشنطن قبل أيام نوقش خلاله الملف السوري وشرق الفرات ويريد أردوغان كذلك أن يكون بوتين على علم ببعض تفاصيله. الرئيس الروسي أطلع أردوغان على نتائج محادثاته الأخيرة مع بشار الأسد وحصيلة المحادثات الأميركية الروسية السياسية والعسكرية بشقها السوري أيضا.
عندما يقول أردوغان إن تركيا تستضيف حوالي 4،5 مليون لاجىء سوري وأنه حان الوقت لإيجاد حل ثابت ونهائي ويمكن اعتماده لتسهيل عودتهم فهو يقصد أولا تسهيل فتح الطريق أمام تفاهمات جديدة في شمال سوريا وطرح حلول عملية مغايرة لملف الأزمة السورية لأنه دون فعل ذلك لن تحل أزمة اللجوء. لن يكون هناك مفاجأة إذا ما سمعنا أن الترجمة العملية لما قاله الرئيس التركي وهو في طريقه إلى سوتشي "سنبحث إلى أين وصلنا في الملف السوري وإلى أين تسير الأمور في المرحلة المقبلة". بدأت تترجم عمليا على الأرض عبر بروتوكول تركي روسي جديد حول إدلب يتحدث عن عملية إعادة تموضع عسكري وسياسي في التعامل مع خرائط المنطقة هناك.
السؤال الذي يريد الكثير من السوريين إجابات عليه هو ارتدادات قمة الرئيسين التركي والروسي في سوتشي على ملف الأزمة السورية وبأي اتجاه ستسير الأمور. هذا حقهم الطبيعي طالما أن هناك من يقول لنا إن التنسيق بين أنقرة وموسكو بمقدوره حل الأزمة في سوريا وطالما أن غالبية طاولات الحوار الإقليمي والدولي تنظم وتعقد في الآونة الأخيرة خارج رغبة وقرار القيادات السورية أو وجودها أمام الطاولة.
سبل السعادة ووسائل الوصول إليها بطريقة طبيعية تمر عبر تفعيل هرمونات الإندورفين والدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين والطريق إلى ذلك هو الضحك والموسيقا والرياضة ومحبة الناس والحيوانات والطبيعة وإسعاد الآخرين والشعور بالأمان والغذاء الصحي المبرمج ووو. هذا المقطع سقط هنا سهوا من مادة أخرى كنا نتحدث فيها عن إعادة الحلم لأطفال سوريا.