لا يأتي تقرير الاستخبارات الأميركية (سي آي أيه) الأخير عن الشرق الأوسط بجديد عن سوريا، سوى أنه يؤكد على أن الدولة المفككة التي صار عليها هذا البلد تتناسل فشلا ينمو، ويكبر مع الوقت، لتصبح معه مسألة العودة إلى الوضع الطبيعي ضربا من المستحيل. وهذا أمر بات بديهية يدركها الجميع، وصدرت حولها تقارير محلية ودولية كثيرة شخّصت الشأن السوري بكل جوانبه، ولم تترك مجالا إلا درسته بالتفاصيل المملة. وفي كل مرة يصدر تقرير على مستوى عال من الأهمية، يتم الوقوف عند الأسباب والنتائج نفسها مع بعض الإضافات التي تمليها مصلحة الجهة التي عملت على التقرير. والأمر اللافت في التقرير الأميركي الاستخباري الذي نتحدث عنه هنا هو أنه أعطى اهتماما بالوضع السياسي، وأكد على الاتجاهات الحالية التي تتحكم بالوضع، ولخصها في عدة نقاط أهمها استمرار الصراع والأزمات الإنسانية والتدهور الاقتصادي خلال السنوات القليلة المقبلة. ورجح أن يمتنع نظام الأسد عن الدخول في مفاوضات سياسية جدية، في حين سيواصل اعتماده على دعم روسيا وإيران، وقال التقرير إن "رئيس النظام بشار الأسد سيعاني لاستعادة السيطرة على بقية الأراضي الخارجة عن سيطرته". أما بالنسبة للمناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، فذكر التقرير أنها سوف تواجه ضغوطاً من النظام وروسيا ومن تركيا.
التقرير يميل إلى بقاء القوات الأميركية شمال شرق سوريا، والبديل عن ذلك أي في حال الانسحاب، "تزايد الضغوط مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية". ولكن التحديات التي ستواجه هذه القوات تتمثل في تهديدات من إيران والميليشيات الموالية لها ولنظام الأسد، من خلال شن هجمات عليها. وقدّر التقرير أن "التنظيمات الإرهابية" ستحاول شن هجمات على قوات التحالف من ملاذاتهم الآمنة في سوريا. ورغم أن التقرير أضاء على الجوانب التي جرت العادة للتركيز عليها، فإنه خرج بخلاصتين تستحقان التوقف أمامهما مطولا. الأولى هي، استمرار الصراع والأزمات الإنسانية والتدهور الاقتصادي في سوريا خلال السنوات القليلة المقبلة. والثانية هي، قد يؤدي تزايد القتال أو الانهيار الاقتصادي إلى موجة هجرة جديدة من البلاد. وهاتان الخلاصتان لا تشكلان مفاجأة لأحد، في وقت لا تعيران اهتماما بالأطروحات التي تسوقها بعض الأطراف حول إمكانية الذهاب في طريق حل المسألة السورية عن طريق المسارات المعتمدة، مثل اللجنة الدستورية وأستانا.
يركز التقرير في صورة أساسية على أن الدولة السورية باتت في حساب الماضي، وليس هناك أي إمكانية لاستعادتها
لا يتحدث التقرير عن فشل رهانات روسيا حول إمكانية حصول مرونة أميركية أوروبية من أجل إعادة الإعمار، وهي المسألة التي تؤرق موسكو أكثر من غيرها، بل يركز في صورة أساسية على أن الدولة السورية باتت في حساب الماضي، وليس هناك أي إمكانية لاستعادتها. وهذا الاستنتاج يؤكد على خلاصات انتهت إليها تقارير ودراسات حول إعادة الإعمار التي تحتاج إلى أرقام فلكية، بسبب حجم الدمار الذي عرفته سوريا، والخسائر التي لحقت باقتصادها، وتقدرها بعض الجهات الدولية المختصة بنحو 400 مليار دولار. والمفارقة التي نقف عندها في هذا التقرير هي ذاتها التي رافقت كل التقارير المتعلقة بالمسألة السورية منذ بداية الثورة في آذار/مارس 2011، ومفادها أن التقارير التي تصدر عن جهات رسمية أميركية وأوروبية لا يتم توظيفها من قبل المؤسسات الرسمية ـ وتبقى بين أصحاب الاختصاص مثل تلك التي تصدرها مراكز الأبحاث والدراسات لأغراض علمية. وما يثير الكثير من إشارات الاستفهام هو الموقف الروسي. وبعدما استثمرت روسيا عسكريا وسياسيا في النظام منذ أيلول/سبتمبر 2015، لا تبدو أنها تحت ضغط استعادة استثماراتها، وإلا لكانت اتبعت نهجا مختلفا يقوم على أمرين. الأول هو الحفاظ على الدولة السورية وعمل كل ما يمنع انهيارها. والثاني هو البحث عن صيغة حل سياسي، لا يكون فيه التمسك بالنظام هو الأساس.