في "اعترافاته"، شدد روسو على ضرورة تجنب أن تكون أو أن نجعل مصالحنا متعارضة مع مصالح من نحب، لأن ذلك يمكن أن يفضي إلى نشوء مشاعر سلبية تجاه من نحب. فعلى سبيل المثال، إذا علم شخصٌ (فقيرٌ) ما أنه سيرث مبلغًا ماديًّا كبيرًا في حال موت شخصٍ آخر، ليس مستبعدًا أن يتمنى موت ذلك الشخص في أسرع وقتٍ ممكنٍ، حتى لو كان يكن له مشاعر الحب والتقدير فعلًا، أو أن يحصل لديه توترٌ كبيرٌ بين محبته للشخص الآخر ومصلحته في موته.
وقد حذر فرويد من عمليات العقلنة المنتجة للأوهام، والتي تتمثل في تحويل الرغبات إلى توقعاتٍ ويقينٍ وحكمٍ جازمٍ بأنها ستحصل رغم عدم وجود مسوِّغاتٍ كافيةٍ لها. وعلى هذا الأساس، ليس نادرًا أن تتحول مخاوف شخص ما إلى توقعات وأحكام تجزم بحصول تلك المخاوف، رغم عدم وجود أساسٍ معرفيٍّ (كافٍ) يسمح بإطلاقها. ونتيجة هذا التحول أو التحويل هي الوهم، بالمعنى الفرويدي الدقيق للكلمة، أو الخطأ، بالمعنى الديكارتي للكلمة. ويمكن للعملية النفسانية المنتجة للوهم أن تنطلق مما نخافه ونرغب عنه، وليس مما نرغب فيه فحسب.
يبدو أن كثيرين لم يأخذوا بنصيحة روسو و/ أو لم يستمعوا إلى تحذير فرويد. وبدا ذلك واضحًا في الأحكام التي أطلقوها أو تبنوها حيال ما حصل في سوريا خلال الأسابيع القليلة الماضية. فهناك من حوَّل رغباته أو مخاوفه إلى توقعات وأحكامٍ جازمة، فأنتج الكثير من الأوهام، ومن ثم بالغ في التمسك بها واستكبر القيام بمراجعة نقدية لها والتخلي عن بعضها، والإقرار بالخطأ أو التوهم، في هذا الخصوص، حتى بعد أن ثبت له وللآخرين ارتكابه لهذا الخطأ وتبنيه لذلك الوهم. وهكذا، وبسبب الاعتقاد المحق أو الواهم بوجود ارتباطٍ وثيقٍ بين مصلحةٍ ما وتوقعٍ أو رغبةٍ ما، تحولت رغبات أو مخاوف كثيرين إلى توقعات، ومن ثم أصبحت أقرب إلى الأمنيات، وأصبح الخوف من الاعتراف بخطأ تحويل تلك المخاوف إلى توقعاتٍ وأحكامٍ جازمةٍ أقوى وأشد تأثيرًا وفاعليةً من تلك المخاوف نفسها!
لم يترافق إسقاط النظام مع نشوب حرب أهليةٍ أو حربٍ بين الطوائف. بل إن إسقاط هذا النظام أفسح مجالًا لقيام الكثير من النشاطات السياسية التي يشارك في بعضها هؤلاء المهووسين بمعاداة الإسلام (السياسي) والرافضين له
وعلى العكس مما بشَّر به بعض المعادين بهوس لكل ما يمت للإسلام (السياسي) بصلة، لم يترافق إسقاط النظام مع نشوب حرب أهليةٍ أو حربٍ بين الطوائف. بل إن إسقاط هذا النظام أفسح مجالًا لقيام الكثير من النشاطات السياسية، التي يشارك في بعضها هؤلاء المهووسين بمعاداة الإسلام (السياسي) والرافضين له بالمطلق، من دون أي حسابٍ أو مفاضلةٍ. فثمة رفضٌ غير سياسي للإسلام السياسي، يتمثل في التعامي عن أي إيجابية قد يتسم بها أو تنتج عن وجوده ونشاطاته، مع الإفراط في تضخيم سلبياته، الضخمة أصلًا في كثيرٍ من الأحيان، واختزاله فيها، في موقفٍ أحاديٍّ لا يرى في الإسلام (السياسي) إلا السلبي أو الشر (المطلق)، ولا يرى في هزيمته والقضاء عليه إلا الإيجابي أو الخير (المطلق). وعلى الرغم من أن الرفض المذكور ينطلق من موفعٍ غير دينيٍّ أو لادينيٍّ، على الأغلب، فإنه يتخذ غالبًا صيغة/ مضمون الرفض العقائدي (الديني) للإسلام (السياسي).
في انتقاده لحماس ولهجمات السابع من أكتوبر، شدد هذا الاتجاه الأيديولوجي على أنه بغض النظر عن وجود احتلالٍ (إسرائيليٍّ) ووجود حقٍّ في مقاومته، (كان) ينبغي لتلك المقاومة أن تحسب حساب أفعالها والنتائج (الكارثية) المترتبة عن تلك الأفعال، والتي أفضت إلى ما يشبه نكبة غزاويةٍ كاملة الأركان. وهذا الانتقاد لحماس يتأسس على منظورٍ براجماتيٍّ بالدرجة الأولى والعاشرة. وعند بدء عملية ردع العدوان تنبأ أصحاب الاتجاه الأيديولوجي المذكور بأن تكون نتائج تلك العملية سيئة وسلبية وكارثية النتائج أيضًا، وسخروا من مثل تلك العمليات التي لا تفضي، من وجهة نظرهم، إلا إلى الخراب والدمار، ومن دون تحقيق أي إضافةٍ سياسيةٍ إيجابيةٍ أو أي منافع عمليةٍ تستحق حصول ذلك الخراب والدمار من أجلها. ومع تسارع تحرير حلب ومن ثم حماه، استمر (بعض) أصحاب هذا الاتجاه في جزمهم باستحالة أن تنجح تلك العملية في إسقاط النظام الأسدي وبأن "المجتمع الدولي" لا يمكن أن يسمح للجولاني وهيئته بالسيطرة على دمشق، وبأن النظام الأسدي لن يسقط ولا يمكن أن يسقط على أيدي مثل تلك الفصائل الإسلامية. لكن النظام سقط بالفعل بعد أيامٍ قليلةٍ، ولم يترافق ذلك مع نشوب حربٍ أو حروبٍ أهليةٍ أو طائفيةٍ، كما توقع أو تمنى (بعض) أصحاب التوجه الأيديولوجي المذكور. وبدا أنه من الضروري ومن المرجح أن يقوموا بمراجعة أحكامهم الجازمة وتوجهاتهم الأيديولوجية المؤثرة سلبًا في رصانة رؤاهم المعرفية. لكن، بدلًا من القيام بتلك المراجعة النقدية، وجد ذلك التيار أن الحل للمأزق الذي أوقعه فيه تحيزه وتعاميه الأيديولوجي هو نفي أي دورٍ للفصائل الإسلامية في إسقاط النظام، والقول إن النظام قد سقط نتيجةً لاتفاقاتٍ دولية وإقليميةٍ فقط، وأن لا "فضل" للفصائل المذكورة في إسقاطه.
***
وهكذا، تنوس المواقف الأيديولوجية للاتجاه المذكور بين تحميل الإسلاميين كامل المسؤولية عن كل السلبيات التي تحصل عقب قيامهم بفعلٍ ما، ونفي أو إنكار أي دورٍ إيجابي لهم في أي أمرٍ إيجابيٍّ يحصل عقب قيامهم بفعلٍ ما. وبسبب ذلك المنطق اللامنطقي، تبدو مثل تلك الأحكام المعرفية أحكامًا أيديولوجيةً خالصةً، بالمعنى السلبي للكلمة، لأنها غير قابلة للدحض والتفنيد، وفقًا لمعيار كارل بوبر للتمييز بين المعرفة (العلمية) والأيديولوجيا. وهذه الأحكام أيديولوجية، لأنها صادقة، مهما حصل وبغض النظر عما يمكن أن يحصل، ومع النظر إليه أيضًا. وهي تبدو أقرب إلى المسلمة التي تحتاج إلى أن يتم التخلي عنها بقدر الحاجة الشديدة إلى التدليل على صحتها. ويبدو، في بعض السياقات والأحيان، أنه ثمة استحالة في تحقيق الحاجتين المذكورتين. فمن ناحيةٍ أولى، تمادى (بعض) أصحاب ذلك الاتجاه المصاب برهاب الإسلام (السياسي) في رهانهم على سلبيات الحركات الإسلامية إلى درجة حرقوا معها كل جسور العودة وأصبح الأمر بالنسبة إليهم أشبه بمسألة وجوديةٍ، وليست مجرد مسألةٍ معرفيةٍ أو سياسيةٍ. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ولا يستطيع (بعض) أصحاب الأيديولوجيا المضادة للإسلام (السياسي) إخضاع أيديولوجياتهم والأحكام (المعرفية) المتأسسة عليها للمحاجة المعرفية الرصينة، ولا يستسيغون وضع أطروحاتهم موضع شكٍ وفحصٍ وسؤالٍ بحثيٍّ، ولا يحتملون مناقشة إمكانية صحة أو معقولية الأطروحات المضادة وأخذ الحجج والقرائن والمضامين التي تقدمها في الحسبان.
وفي خصوص المخاوف، من (السياسي أو الجهادي) أو غيره، التي يعبر عنها أشخاصٌ كثر، من سوريا والعالم العربي، عند الحديث عن الأوضاع السورية الحالية والمستقبلية، أرى، مع كثيرين، أن (معظم) تلك المخاوف المعلنة معقولة ومشروعة، وينبغي التفكير والتفاكر في خصوصها، وبذل الجهود النظرية والعملية لتجنب تحققها. لكن ينبغي، أيضًا وخصوصًا، الحذر من تحويلها إلى يقينيات فارغةٍ وأحكام جازمةٍ خلبيةٍ، وعدم تسليمها القيادة لرؤانا المعرفية بطريقةٍ أيديولوجيةٍ ونفسانيةٍ تضر أكثر مما تنفع. ومن المفيد والضروري التذكر والتذكير دائمًا، في السياق الحالي، أن حلم (معظم) السوريات والسوريين بإسقاط نظام الأسد قد تحقق بعد أن كان كابوسًا جاثمًا على حياة السوريين لعقودٍ طويلةٍ، إلى درجة أن كثيرين، ومنهم كاتب هذه السطور، قد وصلوا او كادوا أن يصلوا، إلى مرحلة اليأس الكامل من تحقيق ذلك الحلم والخلاص من ذلك الكابوس.
***
على الرغم من كل شيء، لدى السوريات والسوريين، للمرة الأولى منذ زمن طويلٍ، أسبابٌ معقولةٌ لأن يفرحوا، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، بحال بلدهم وببعض آفاقه المستقبلية. فللمرة الأولى، منذ عقودٍ أسدية خمسة بدت أنها أبدية بل سرمدية، هناك احتمالات معقولة وممكنات إيجابية لمستقبل سوريا. فالمستقبل مفتوحٌ ومتاحٌ للسوريات والسوريين الإسهام في صناعته، وليس هناك، في هذا الخصوص، حتميةٌ أو قسرٌ (كاملٌ) داخليٌّ أو خارجيٌّ. وينبغي لكل من استطاع إلى ذلك سبيلًا الإسهام الإيجابي في صناعة أو صياغة هذا المستقبل. كما ينبغي للمخاوف المذكورة ألا تجعلنا ننسى أو نتجاهل مدى أهمية الإنجاز الذي تحقق برحيل النظام الساقط، أو نقلل من أهميته. ولولا الظروف الصعبة والضرورات الراهنة الملحة، لكان واجبًا علينا جميعًا أن نقيم الأفراح والليالي الملاح لمدة ستة أشهر على الأقل، لنعطي هذا الحدث العظيم حقه الكامل، على طريقة الزير سالم، في الذهاب إلى الحد الأقصى، في الفرح والاحتفال أو في الحزن والحداد.