خلال عقود ما بعد الاستقلال لدى الدول العربية، عملت أنظمتُها وحكوماتها الأولى على محاولة دفع عمليات التطوير إلى الأمام، وغالباً ما كانت محاولاتها هذه خجولة بسبب تراكمات من العادات والتقاليد، التي أصبح المساس فيها يسبب مشكلة كبيرة لشرائح اجتماعية واسعة، وتحتاج لجهد كبير وزمن طويل وخطط كثيرة حتى يتم تجاوزها ولو قليلاً.
إلا أنه سرعان ما سيطرت مجموعات من العسكر على مقاليد الحكم في دول العالم الثالث عموماً، والعالم العربي خصوصاً، وأغلبهم كان همه في الدرجة الأولى، الحفاظ على السلطة بقبضة حديدية، باستثناء قائدين كان لهما مشاريع طموحة في بناء شعب جديد، في منطقة الشرق الأوسط، الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك والرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، فكل منهما كان لديه مشروع حقيقي متكامل لبناء دولة حديثة، تستلهم التجارب الأوروبية، وتقطع كل صلاتها بالماضي.
استطاع الحبيب بورقيبة خلال سنوات حكمه لتونس، أن يقطع بها أشواطاً بعيدة عن محيطها العربي، وعاداتها الإسلامية المتوارثة جيلاً بعد جيل، وأن ينقلها من ماضيها المشترك مع جيرانها العرب، ليحط بها في الحداثة الأوروبية التي استوردها بكل تفاصيلها، وأعاد تفصيلها بما يناسب تونس، وسواء اتفقنا مع بورقيبة أو اختلفنا معه لا يمكن أن ننكر أنه صاحب مشروع، على خلاف بقية الحكام العرب الذين كان مشروعهم الأول والأخير هو المحافظة على الكرسي، فقط لا غير، دون طموحات بناءة وشجاعة في بناء بلاد جديدة وشعوب جديدة.
انعكست إصلاحات بورقيبة في المدى البعيد على مجالات الحياة في تونس، وصار لهذه الدولة الصغيرة مستوى متميز من الأوضاع الاقتصادية والتعليمية والحياة الاجتماعية والثقافية
انعكست إصلاحات بورقيبة في المدى البعيد على مجالات الحياة في تونس، وصار لهذه الدولة الصغيرة مستوى متميز من الأوضاع الاقتصادية والتعليمية والحياة الاجتماعية والثقافية، خلاف دول مجاورة لها مثل ليبيا التي تجاوزتها تونس بعقود كثيرة، حتى إنه عندما عرض معمر القذافي على بورقيبة وحدة ليبية تونسية، رفضها، وتذرع ساخراً بأن ليبيا وأهل ليبيا ما يزالون يعيشون في عصر سيدنا نوح.
استطاعت تونس من خلال مجموعة تشريعات وقوانين وإصلاحات بدأت منذ عقود ولم تنته حتى الآن، أن تذهب بعيداً في قطيعتها مع الماضي، وتكاد توصف القوانين التي شُرعت (وتُشرع) فيها سابقاً وحالياً، بما يخص المرأة والإرث ــ مثلاً ــ على أنها الأجرأ والأكثر شجاعة ضمن محيطها كله.
خلال العقود الماضية انعكست إصلاحات بورقيبة على المجتمع التونسي، بشكلٍ إيجابي فتشكل جيل جديد، وأدى لتشكل طبقة من العلمانيين واليساريين لا يستهان بها، ولها حضور جماهيري واسع في البلاد. ولكن ثمة معضلة حقيقية تعيشها تونس الآن، أكثر من أي دولة عربية، بما يخص الانسجام والتعايش.
تعيش تونس حالياً أزمة حقيقية، لا مرئية، قد تنفجر مستقبلاً بشكلٍ كارثي، لديها تيار علماني واسع وجماهيري، ولديها أيضاً تيار متشدد ليس بقليل، وقد منحت الأوضاع في سوريا فرصة لتونس لتصدير أزمتها الداخلية الحادة، بهدف تأجيل انفجارها، فتسابق علمانيوها لزيارة نظام الأسد، والخروج في مظاهرات غير قليلة في تونس تحمل صور رئيس النظام السوري، وتحتفي به أكثر من مرة جانب سفارته في العاصمة التونسية.. في الوقت ذاته، جاء إلى سوريا عدد كبير من المتشددين التونسيين، وانخرطوا بقوة في التنظيمات الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية والنصرة وغيرها من الفصائل المتطرفة، والمتابع للأوضاع الداخلية لهذه الفصائل سوف يستنتج أن المجاهدين التوانسة فيها، أصحاب ثقل واضح، من القواعد وصولاً إلى القيادات.
تعيش تونس حالياً أزمة حقيقية، لا مرئية، قد تنفجر مستقبلاً بشكلٍ كارثي، لديها تيار علماني واسع وجماهيري، ولديها أيضاً تيار متشدد ليس بقليل، وقد منحت الأوضاع في سوريا فرصة لتونس لتصدير أزمتها الداخلية الحادة
لعل الغريب في الأمر هو نسبة المجاهدين التوانسة الذين جاؤوا إلى سوريا، مقارنة بتعداد الشعب التونسي وأعتقد أنها نسبة جيدة، لا يستهان بها قياساً مع شعوب عربية أخرى مجاورة وقريبة من سوريا، عدد سكانها أضعاف عدد تونس، وتعاني من أزمات متلاحقة، كالعراق والسعودية مثلاً، إلا أن نسبة المجاهدين من هذه الدول في ساحة المعارك بسوريا، مقارنة بتعداد شعوبهم، يظل أقل بكثير من نسبة مجاهدي تونس بالنسبة لتعداد الشعب التونسي.
وهذا يعني أن تونس تحتوي على مصنع حقيقي وكبير لصناعة الجهاد، لا يقل أهمية عن مصنعها في إنتاج العلمانيين.
والغريب في الأمر هو تلك المنافسة الحادة بين التيارين على الأراضي السورية، وتسابقهما معاً لنصرة الطرف السوري الذي يناسبه، من ديكتاتور أو جهاديين. ومن يراقب ثقل هذين التيارين على الأراضي السورية، سوف ينتبه إلى أن تونس دولة غامضة، وثمة تناقض داخلي حاد تعاني منه.
نجحت تونس في أن تصدر أزمتها الداخلية إلى سوريا خلال السنوات الماضية، كنست ما تريد كنسه من مجاهدين جدد، قبل أن تفرخ أوضاعها مجاهدين آخرين، واحتمى علمانيوها بالأسد بوصفه علمانياً لا يشق له غبار في العلمانية.. زاعمين أنه يحارب نيابة عنهم مجاهدي بلادهم لكن على أرضه.
من الوارد جداً، مستقبلاً، أن تمر على المنطقة مرحلة بلا حروب.
عندئذ لن تستطيع الدولة المأزومة كنس ما تم تفريخه من مجاهدين ومتطرفين جدد عندها، وقتها، إلى أين سوف يذهب علمانيو تونس خارج حدود بلادهم؟ بهدف تأييد ديكتاتور علماني؟ والمتشددون في تونس لن يعثروا على حرب يجاهدون فيها خارج بلادهم؟ ما يعني أن علمانيي تونس ومجاهديها سيكونون معاً سجناء داخل الحدود التونسية، ووقتها، لن تتسع لهم تونس معاً.