بعد حياة عاصفة بالعمل السياسي، طيلة نحو سبعين عاماً، رحل رياض الترك، أحد أقطاب الحركة الشيوعية في سوريا، ودفِن جثمانه في بلاد الاغتراب التي توزّع فيها السوريون نتيجة عمليات القتل والاعتقالات الأسدية. ووصفه بالقطب في تلك الحركة، مقابل القطب الآخر، خالد بكداش، يأتي من أنه ومجموعة من رفاقه قد رسموا خطاً جديداً في تلك الحركة، خطاً نشد الاستقلالية والالتفات إلى الجمهور الأكبر من البلاد، والخروج نحو الفضاء السياسي بعيداً عن المسار المؤدلج الذي سجن الحركة ضمن مفاهيم معلّبة لا علاقة لها كثيراً بالواقع، وأيضاً التحرر من النزعة الاقتصادية الماركسية ومهام الحركة المطلبية التي تنحصر في الخلاف على أسعار المواد التموينية، هذا كله أوصل في النهاية إلى خط سياسي وطني مناهض للدكتاتورية، مقابل خط تمسك بمكاسبه ودوغمائيته ليصبح في النهاية بوقاً لأسوأ نظام قمعي.
وسم رياض الترك جزءا من الحياة السياسية في سوريا، رغم ضعفها، سواء لرفاقه (جماعته كما هو متداول في سوريا)، أو لخصومه أيضاً، فقد كان من أوائل من خرجوا عن الخط التقليدي الشيوعي في سوريا والمنطقة في أوائل السبعينيات طارحاً قضايا عدة معروفة بـ "قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري"، لكن الأكثر أهمية هو ما سعى إليه ورسخّه مع مجموعة من الأحزاب والمستقلين في النصف الثاني من السبعينيات، وهو قضية الديمقراطية والخيار الديمقراطي، للانتقال بسوريا إلى عهد جديد، ذلك الخيار الذي دفع كثيرٌ من أفراد الحزب ثمناً كبيراً له من حياتهم في سجون الأسد، امتدت لثمانية عشر عاماً، ومنهم رياض الترك نفسه، وهذه أهم النقاط التي يختلف فيها عن القادة الانتهازيين، حيث يُطلقون المواقف المتشددة وهم خارج البلاد.
يتفق الجميع على شجاعة هذا الرجل، ومعروف تصريحه العلني حول موت الدكتاتور عام 2000 في زمن غلف الصمت سوريا بأكملها، وغير شجاعته، هناك وعيه السياسي الذي دفعه لأن يلعب دور القاطرة سواء في الحزب أو بين الحركة الديمقراطية السورية. ففي الحزب كان المحرك إلى حد كبير نحو تبني الموقف الديمقراطي، رغم وجود معارضة له ضمن حزبه من بقايا البكداشية. أما الحدث المهم الذي لا يزال كثيرون يتناولونه، فهو الموقف من الاحتجاجات في الثمانينيات، التي عدّها الحزب والتجمّع الوطني الديمقراطي حراكاً شعبياً لا بد من دعمه، وصولاً للتغيير الديمقراطي، وهو غير الموقف من أعمال العنف المتبادلة بين قوات النظام والطليعة المقاتلة، التي دانها وعدّ أنها ستوصل البلاد إلى حالة من الخراب، محملاً النظام المسؤولية الكبرى عنها كونه يقف ضد أي عملية تغيير سلمية.
وللحديث عن ذلك الموقف الذي اتخذه البعض ذريعة لاتهام الحزب بعلاقة ما مع الإخوان المسلمون، فقد تبنى الحزب والتجمع الديمقراطية كنمط للحكم والحياة السياسية، بمعنى حق الجميع بالمشاركة السلمية في الحياة السياسية، وهذا يستدعي بشكل طبيعي دخول فاعلين سياسيين جدد، كتعبير عن قوى اجتماعية في البلاد، غير الذين يعدون أنفسهم الطليعة، ولهم الحق وحدهم في العمل السياسي، كونهم أصحاب الوعي الثوري. فالدفاع عن حق الجميع في ممارسة السياسة والعمل السياسي، وقبول المختلف، هو جوهر العملية الديمقراطية، أما الموقف من هذه القوى والتحالفات فيما بينها، فهذا يعود لعملية الصراع السياسي التنافسي السلمي، هذا إن كانت الديمقراطية خياراً حقيقياً وليست وسيلة للوصول للسلطة وتصفية الحسابات.
وفي حالة الثمانينيات، دان الحزب العنف من الطرفين، لكنه حمّل النظام مسؤوليته الكبرى، والرد معروف على هذا الموقف من أصحاب العقل الإسلامي الإقصائي في الثمانينيات، الذي لخصته عبارة "عودوا إلى جحوركم"، في الرد على تبني الخيار الديمقراطي كوسيلة للتغيير وتخليص البلاد من حالة الاستبداد. فالحزب، ورياض الترك، أرادا الخلاص من الحالة التي كانت تسم إلى حد كبير الحركة الشيوعية، وهي الانتشار الكبير بين الأقليات الإثنية والمذهبية، والتوجه نحو الكتلة الكبرى، التي ينظر لها كثيرون بعين العداء، واصمين إياها بالتخلف، حيث ذهب البعض إلى أن عدّها خزاناً للحركات المتطرفة الجهادية مؤخراً، هذا التوجه الذي لا يروق للقوى الإقصائية -أصحاب النظريات اليقينية- وقبلهم للنظام القمعي، فمن الواضح أنهم يستندون إلى نفس القاعدة، التي تستبعد الأكثرية من المشاركة في الحياة السياسية، لتقرر مصيرها وشكل نظام حكمها، بمعنى آخر أن تكون فاعلاً سياسياً حقيقياً في البلاد.
في منشور للدكتور عبد الله حنا (رحمه الله)، كتبه قبل وفاته عن ذكرياته أيام الوحدة وملاحقة المخابرات للشيوعيين، حيث كان يتم تسفيرهم للدول الاشتراكية وقتها هرباً من الاعتقالات، (وبالمناسبة، كان خالد بكداش أول من غادر البلاد وصعّد موقفه من الوحدة، بينما بقي رياض الترك في البلاد واعتقل لفترة عامين ونصف، الفترة التي يعدها الأصعب)، وكونه المسؤول عن الطلبة الشيوعيين في ألمانيا الشرقية وقتها، ذكر أن غالبيتهم كانوا من أبناء الأقليات، وكتب إلى قيادة الحزب أن هذا الوضع غير صحي، وينهي حديثه بالقول، ما لم يعمل الحزب بين أمة لا إله إلا الله، فلن يتقدّم، وقصده الأغلبية وليس الجماعة الدينية، كما يعدها بعض المتعيشيين من الانتماء للمعارضة، الذي لا يمكن أن يفسَر موقفهم إلا أنه ينطلق من موقف أقلوي لا أكثر.
وهنا لا بدّ من الحديث عن العلاقة بين الأقليات في سوريا والحركة الشيوعية، فمن الطبيعي أن تجذب الحركة أبناء الأقليات الذين تعرّضوا لاضطهاد، لكونها تدعو للتحرر والمساواة والعدالة، وأن تنشد العدالة والسلام والحقوق للجميع، أو تطلب تحقيق حقوق مستلبة، وهو عامل قوة وغنى للحركة، إنْ تكامل مع سياسة وطنية تحررية، أما ما حدث في الحركة الشيوعية في سوريا، فقد كان مختلفاً إلى حد كبير، حيث ترسخت بين أبناء الأقليات أكثر، وفي المقابل تفاعلت الأقليات مع هذه الحال واستثمرته مدعية أنها فئات متقدمة اجتماعياً عن البقية، ومما عزز هذه "القناعة" أنها لاقت الدعم النظري اللازم من أيديولوجيتها الماركسية، التي تعطي الدور الأكبر للحزب الطليعي ودوره في "تثوير" الجمهور، بغض النظر عما آلت إليه تجربة الحزب الطليعي كمؤسس للأنظمة الديكتاتورية، فدمجت بين أنها فئة متقدمة اجتماعياً وأنها تحمل الوعي الثوري، وكل من يحيد عن تصنيفاتها -حتى لو كانت أمة لا إله إلا الله- فهو مناهض للتقدّم والتحرر!
لا شك أن تجربة الحركة الشيوعية في سوريا تجربة مريرة ومؤلمة، لما آلت إليه، لكنها أيضاً كانت منتجة بفعل شخصيات مثل إلياس مرقص وياسين الحافظ ورياض الترك، وغيرهم كثيرون، أهمهم الدكتور جمال الأتاسي، الزعيم الناصري، لحالة جديدة من الفهم للسياسة والديمقراطية، حيث عدوها خياراً استراتيجياً، وليست وسيلة للوصول للسلطة. ورغم تعثر التجربة هذه نتيجة المواجهة القمعية المفرطة من النظام، إلا أنها أرست حالة من العمل الديمقراطي، كانت ذروته في تأسيس إعلان دمشق 2005، كأوسع تحالف سياسي للقوى والشخصيات المناهضة للقمع، لكنها كغيرها لم تستمر وتثمر، لأسباب غير قمع النظام، بحيث تتحول لتيار وطني عريض من ناحية أخرى، كان يمكنه أن يلعب دوراً أكبر في الثورة لو أنه حافظ على زخمه، ويبدو أن "عطباً" عاد لينخر في تلك التجربة، ولا بد من التعامل معه بكل شفافية، بعيداً عن أي دوافع غير الوطنية.
تبقى تجربة الراحل رياض الترك، ذلك السياسي الواضح بمواقفه، المدافع عنها مهما كان الثمن، موضوعاً للنقد والدرس من دون أن يبخس حقها، فهي جزء من تاريخ سوريا السياسي، إضافة لتاريخ الحركة الشيوعية ومآلاتها، فهو شاهدٌ وفاعل منذ الخمسينيات من القرن الماضي.