يتذرع المعترضون على التذكير المتواصل بقضية مختطفي دوما الأربعة (رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي) بأن التركيز على قضية هؤلاء فيه كثير من عدم الإنصاف لباقي المعتقلين والمختفين في السجون السورية، والأصحّ هو أن تضمن قضيتهم ضمن ملف المعتقلين ذاته، لا أن يكون ملفا مستقلا يعاد طرحه كل عام في ذكرى الاختطاف، أو ضمن نطاق نضال عائلاتهم لمعرفة مصيرهم، والحال أن هذا الكلام لا غبار عليه ككلام عامّ، ذلك أن ملف المعتقلين والمختفين هو أحد أهم الملفات السورية حاليا، والأكثر إلحاحا، إذ إن مصير عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون النظام ما زال مجهولا حتى اللحظة، وهم من خيرة الشباب السوري، ومن الكوادر التي كان يمكن لها أن تكون نواة المستقبل السوري المأمول لو أتيح لها أن تواصل حياتها، وأن تنجز تغييرا سلميا في السياسة والمجتمع، لولا أن النظام السوري كان يدرك أن الخطورة سوف تأتي من هذه الكوادر، أبناء الطبقات الوسطى، من ذوي التعليم العالي والثقافة العلمية أو الفنية، ومن ذوي الرغبة في إنجاز تحوّل سياسي سلمي يصنع سوريا جديدة عادلة مع جميع أبنائها، وصالحة للعيش الحر والكريم لأبنائها القادمين من الأجيال الجديدة، فعمل على الفتك والتنكيل بهم، سواء بالملاحقة أو بالترهيب أو بالنفي أو بالاعتقال أو بالتعذيب الجسدي والنفسي، أو بالإعدام الميداني من دون محاكمات أو بمحاكم صورية، أو بالقتل تحت التعذيب، بكل حال فإن ملف قيصر يمتلئ بالأمثلة على ما فعله النظام بأفضل الشباب السوريين، عدا فتكَه بالآخرين عبر الزجّ بهم في حرب أخوّة الوطن وتحويلهم إلى قتلة أو مقتولين، في أكبر جريمة يرتكبها نظام سياسي وعسكري ضد شعبه.
أظهرت الوقائع والأحداث أن التسليح والعسكرة والأسلمة لم تكن مجرد رد فعل عفوي على إجرام النظام، بل خطة ممنهجة ومدروسة
ورغم أن اعتراض المعترضين على قضية مخطوفي دوما لا غبار عليه من جهة ملف المعتقلين إجمالا كما أسلفنا، فإنه في أغلبه كلام حق يراد به، للأسف باطل، إذ إن معظم المعترضين، ذوو خلفية أيديولوجية متناغمة مع إيديولجية الخاطفين، أو كما درج على لسان السوريين سابقا: (من جماعة كفوا ألسنتكم عن المجاهدين)، هؤلاء الذين برروا كل الارتكابات والجرائم التي قامت بها الميليشيات والتنظيمات الجهادية بذريعة (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، وبذريعة أنها أخطاء فردية لا يجوز تعميمها على الثوار، غير أن ما تم ارتكابه من قبل هذه الكتائب لم يكن مطلقاً أخطاء فردية، إذ أظهرت الوقائع والأحداث أن التسليح والعسكرة والأسلمة لم يكونوا مجرد رد فعل عفوي على إجرام النظام، بل خطة ممنهجة ومدروسة، رصدت لها الملايين وفتحت لها الحدود المغلقة وغضت عنها الأبصار والأنظار وروّج لها مثقفون وسياسيون بحسن نية أحيانا وأحيانا أكثر بتورّط سياسي نسف الثورة السورية وأهدافها بالكامل.
تأتي استثنائية قضية مخطوفي دوما، من تلك النقطة بالذات، ترويج المثقفين والسياسيين للتسليح والأسلمة، ذاك أن المخطوفين الأربعة يمثلون رمزية يريد الكثيرون تجاهلها، هي رمزية النضال السلمي المدني الذي نادى به وأصرّ عليه الرعيل الأول من الثورة، ورمزية الالتحام مع الثوار في أماكنهم والبقاء في قلب الحدث الثوري وفي مكانه، إذ من السذاجة الاعتقاد بأن المخطوفين الأربعة لم تتح لهم فرص الخروج من سوريا كغيرهم من الناشطين الذين خرجوا بطرق عدة، لكنهم أصرّوا على البقاء في سوريا وانتقلوا إلى دوما التي كانت خارجة وقتئذ عن سيطرة النظام، في خطوة أولى لبناء حالة مدنية كان يشتغل عليها ناشطون في الخارج والداخل معا، وكانت في طور الإنجاز والنجاح لولا ظهور جيش الإسلام وسيطرته على الغوطة الشرقية ودوما تحديدا، لتبدأ مرحلة أخرى مختلفة من الثورة انتهت بإعادة تسليم المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام إليه، واحدة تلو واحدة بتسويات مختلفة، بعد أن تمّت تصفية غالبية الناشطين السلميين على يد جيش الإسلام وما تفرّع عنه.
الاستثنائية الأخرى في قضية المخطوفين الأربعة هي في هويّة خاطفيهم، فبينما كان المخطوفون يشعرون بالأمان أنهم في البيئة التي يفترض أنهم يعملون لأجلها، كان التهديد يأتيهم من قلب البيئة نفسها، من المسيطرين عسكريا على الغوطة، من السلطة (الثورية)، وهو أمر بالغ الدلالة، إذ ما إن امتلك من يفترض أنهم خرجوا ضد طغيان النظام السوري، المال والسلاح حتى تحولوا إلى نسخة عن النظام الذي يحاربونه: سلطة عسكرية أمنية دينية تحتكر كل شيء بدءا من الثورة وانتهاء بالمواد الغذائية والأدوية، وتملك حق الاعتقال والتعذيب والخطف، ويقف خلفها طابور في العالم الافتراضي (جيش إلكتروني) ينظّر لها ويبرر لها كل أفعالها ويغتال سمعة معارضيها، هل فعل النظام مع جيشه الإلكتروني أكثر من ذلك؟ على الأقل النظام فعله مع المنتمين إلى الخندق المضاد له، بينما هؤلاء فتكوا برفقائهم في نفس الخندق، وفي نفس التوجه كما كان ينبغي أن يكون.
من روجوا للعسكرة والأسلمة والافتراق المهول في مسار الثورة هم ذاتهم من صمتوا عن اختفاء الناشطين الأربعة أو خوّنوهم
خطف الناشطين الأربعة في دوما هو بمنزلة خطف الثورة من قبل (ثورة مضادة)، ليس لأنهم أفضل من غيرهم من باقي المعتقلين كما يحلو لبعضهم أن يروّج عن نية المطالبين بالكشف عن مصيرهم، بل لأن سرديّة خطفهم وإخفائهم مشابهة تماما لسرديّة الثورة التي كانت في بدايتها سلمية تطالب بدولة ديمقراطية مدنية عادلة وموجهة ضد نظام استبدادي طغياني، ثم سرعان ما تحولت الثورة إلى ثورة إسلامية مسلحة وموجهة ضد نظام أقلّوي يروّج عن نفسه أنه علماني، من خطف سلمية الثورة وأخفى أهدافها الأساسية هم ذاتهم من خطفوا الناشطين الأربعة وأخفَوا مصيرهم، ومن روّجوا للعسكرة والأسلمة والافتراق المهول في مسار الثورة هم ذاتهم من صمتوا عن اختفاء الناشطين الأربعة أو خوّنوهم أو أساؤوا إلى سمعة من يتحدث، رمزية قضيتهم هي رمزية الثورة نفسها بمسارها ومصيرها، لهذا فإن التذكير الدائم بقضيتهم ومحاولة الكشف عن مصيرهم ربما يحمل معه كشفاً عن المعطيات المجهولة أو المخفية التي تقف إلى جوار الأسباب المعروفة التي غيّرت مسار الثورة وأوصلتها إلى مآلها الحالي.
في الذكرى الثامنة لاختفاء الناشطين الأربعة ربما من الشرف بمكان أن يعتذر كل من خوّنهم أو حرّض ضدهم أو شمت بهم وبعوائلهم بسبب اختلاف الإيديولوجية، أمّا المجرمون من كل الانتماءات، ممن اختطفوا سوريا كلها ونكّلوا بأبنائها فهؤلاء يجب أن يساقوا إلى المحاكم الدولية لولا أن النظام العالمي برمّته متورط في ما حدث ويحدث في سوريا.