نفقد يوماً بعد يوم جزءا منا كسوريين، خاصة مع رحيل قامة تلو الأخرى من الفن والثقافة السورية الجميلة، سواء كانت تلك القامة فنية أو أدبية أو ثقافية، ففي أعوام قليلة مضت ودعنا شخصيات تحمل في ثناياها الوطن والهوية والانتماء، الانتماء إلى البيئة والأرض والثقافة. غادرنا الفنان الكبير خالد تاجا صاحب الموقف السياسي المميز والذي انحاز مبكراً للثورة السورية، والمبدع حاتم علي والأديب خيري الذهبي وغيرهم من القامات التي نفخر بهم كسوريين.
واليوم غادرتنا سيدة من سيدات الفن العربي والدراما السورية، سيدة أجمع كل من عرفها على رقيها وأخلاقها الكريمة.
سيدة.. تمثل الأم السورية بنبلها وحنانها وعطائها وأمومتها واحتوائها لأحبتها ومحيطها، حتى بتنا بفقدانها وكأننا فقدنا أمهاتنا لا قدر الله.
رحيل الفنانة ثناء دبسي رافقه جعبة من الذكريات وأحداث تركت بصمة في قلوب الجمهور السوري تحديداً، ناهيكم عن الكم من المشاعر الجميلة التي نتلقاها عقب متابعتنا لأي عمل درامي تكون جزءا منه، فهي امرأة ذات طاقة إيجابية مفعمة بالحب والإحساس والأمومة.
غادرتنا الفنانة القديرة ذات العقل الرزين والقلب الكبير تاركةً خلفها إرثاً فنياً من الأعمال المسرحية والإذاعية والسينمائية والمسلسلات الدرامية، وكانت من مؤسسي المسرح القومي في دمشق، فقد بدأت عملها الفني من مسرح الشعب في حلب في أواسط الخمسينيات، إلى المسرح القومي في دمشق بالستينات إلى جانب عمالقة الفن كالفنان الراحل نهاد قلعي والفنانة القديرة منى واصف.
في التسعينات أي بعد عشرين عاماً من الانقطاع عن الفن، عادت الفنانة ثناء بقوة بأعمال درامية كالمسلسل التاريخي الذئاب، وأعمال أخرى
وفي السبعينات توجهت للدراما التلفزيونية إلى جانب عملها المسرحي، وشاركت في مسلسل "حكاية حارة القصر" ومسلسل "الأميرة الخضراء" الذي كانت بطلته، كما شاركت بالعديد من الأعمال الدرامية الأخرى، ولأن العائلة من أولوياتها غابت عن الساحة الفنية عشرين عاماً بعد إنجابها ثلاثة أولاد أصغرهم الفنانة يارا صبري.
في التسعينات أي بعد عشرين عاماً من الانقطاع عن الفن، عادت الفنانة ثناء بقوة بأعمال درامية كالمسلسل التاريخي الذئاب، وأعمال أخرى كـ غزلان في وادي الذئاب، وزمن العار، وعصي الدمع والثريا وأولاد القيمرية… وغيرها من الأعمال التي أصقلت بداخلنا تلك المشاعر النبيلة والتقدير لذلك الأداء الحي والحقيقي.
ونالت خلال مسيرتها الفنية العديد من الجوائز والتكريمات ومنها تكريمها بمهرجان دمشق المسرحي عام 2004 وتكريمها في احتفالية الثقافة السورية عام 2020.
لم تكن الفنانة ثناء فنانة متقنة لمهنتها وتجيد دور الأم الحنون فحسب، بل كانت تلك حقيقتها، وهذا ما لمسه الجمهور من خلال لقائها التلفزيوني الذي بكت فيه عند سؤالها عن ابنتها يارا التي حُرمت من العودة إلى سوريا بسبب وقوفها هي وزوجها الفنان ماهر صليبي إلى جانب الثورة السورية منذ بدايتها، وتوقيعها على بيان الحليب المنوط بفك الحصار عن درعا التي كانت فتيل الثورة السورية عام 2011، ويارا الفنانة المتألقة ذات المواقف النبيلة أثبتت أن الفنان رسالته ليس فنية فحسب بل يجب أن تكون إنسانية، وأن يكون من أصحاب المواقف النبيلة، وهذا ما قامت به بانحيازها لأبناء بلدها، وعبرت عن إنسانيتها بالمطالبة الدائمة وعلى مدار ثلاثة عشر عاماً بالمعتقلات والمعتقلين القابعين في سجون النظام.
أما دموع الفنانة ثناء في تلك اللحظة فآلمتني وكأنني أرى دموع والدتي وأمهات أصدقائي في عينيها، دموع الشوق والفقدان، تلك الدموع الطاهرة الصادقة هي دموع الألم لفراق أمهاتٍ عن أبنائهم الذين حُرموا العودة إلى بلادهم، فقط لوقوفهم إلى جانب الحق والحرية والمطالبة بالعدالة والديمقراطية.
في ذلك اللقاء وتلك اللحظة جسدت هذه السيدة المرأة السورية ليس أداءً لأحد مسلسلاتها، بل إحساساً وروحاً وعلى أرض الواقع.
سيدة مُحبة لبلدها ورفضت مغادرته رغم الأحداث التي حصلت وصرحت أنها "ولدت وستموت في بلدها سوريا، ولن ترضى أن تهان في بلد آخر مهما كان الثمن"
وما لفتني في ذلك اللقاء المشاعر الوطنية الكبيرة التي تحملها في قلبها وعشقها لسوريا، عندما عبّرت عن فخرها واعتزازها بالفيلم الذي شاركت به ابنتها يارا إلى جانب المبدع حاتم علي وتم عرضه تزامناً مع العيد الوطني الكندي، المقتبس عن قصة عائلة هدهد الدمشقية، كيف غادرت هذه العائلة سوريا وأسسوا مصنع شوكولا بكندا، بعد أن هُدم مصنعهم في دمشق، وبدؤوا من الصفر وقاموا بتأسيس مصنع جديد في كندا، وحاز منتجهم المرتبة الرابعة على العالم من حيث الجودة، كانت عينا ثناء تشع فخراً واعتزازاً بأبناء بلدها الذين يمثلون بلدهم بسلوكهم الراقي واعتمادهم على أنفسهم من دون أن يكونوا عالة على أي مجتمع موجودين به.
سيدة مُحبة لبلدها ورفضت مغادرته رغم الأحداث التي حصلت وصرحت أنها "ولدت وستموت في بلدها سوريا، ولن ترضى أن تهان في بلد آخر مهما كان الثمن". وكان ما تمنت... ولدت في حلب ودفنت في دمشق... أرض سوريا كانت المثوى الأخير لها.
عندما نفقد أصحاب رسالة جوهرها الأخلاق والحب والقيم والمبادئ وكأننا نفقد جزء من وطن.
الرحمة لروحك سيدة ثناء.. وكل العزاء لعائلتها ومحبيها.