شهر ديسمبر من كل عام، هو الذي تحتفي به عدة فصائل وحركات تحرر وطني فلسطيني بانطلاقتها، تستذكر يومها الأول في الكفاح ضد المحتل، تستحضر شهداءها ومعتقليها و جزءاً من مسيرتها النضالية، المقصود بالجزئية المستحضرة أخيراً، لإخفاء ما تم التأكيد عليه طيلة أكثر من خمسة عقود " العهد هو العهد والقسم هو القسم" و " ثورة حتى النصر" إلى ما هنالك من ثوابت، بات الحديث عنها مصدراً للتهكم على مآل حركة التحرر الوطني الفلسطيني، خصوصا عند استحضار مسيرة الشهداء والمعتقلين، التي بقيت في ذاكرة الشعب الفلسطيني العنوان الأبرز للتضحية والوفاء والمقاومة للمحتل، إلى أن تحولت تلك الذاكرة والإرث النضالي لمادة استعمالية في البيانات الموسمية المصادفة للذكرى أو استعلائية تصادف حدثاً مرتبطاً بحوادث إقليمية.
الحدث الأبرز في هذا الشأن صدور بيانات "رثاء وتمجيد" للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، بعد مقتله بغارة أميركية في بغداد، بيانات الرثاء لسليماني من حركة حماس والجهاد والشعبية وجبهة النضال والقيادة العامة، وإقامة مجالس عزاء في غزة، فيها كثير من النواح واللطم غير المفهوم في سياق شعور هذه الفصائل باليتم النضالي فجأةً، واختفاء كل إرثها وتاريخها وفقدان الثقة بالنفس أي " بشعبها " وشارعها الفلسطيني غير القادر أن يكون مقاوماً إن لم يكن له "ظهير أو سند " بوزن سليماني لا يقال عنه في ضمائر السوريين والفلسطينيين والعرب سوى مجرم وقاتل مأجور مكلف من ولاية الفقيه، مع أن واقع الحال والتاريخ يجيب بغير ذلك لاستناد الشعب الفلسطيني تاريخيا في معركته مع المحتل إلى إمكاناته الذاتية فقط، ولم يتلق سوى الشعارات وزهق أرواح أبنائه على أيدي ميليشيا إيران في سوريا.
"ننعى قائدا فذا لم يجاره في موقفه وفي جهاده أحد منذ عقود، في فلسطين وفي المنطقة".سليماني "أشرف على امتداد عقدين من الزمان على الدعم المباشر لفلسطين، ونقل الخبرات العسكرية والأمنية لمجاهديها".
نتقدم بخالص التعزية والمواساة للقيادة والشعب الإيرانيين باستشهاد اللواء سليماني، الذي كان له دور بارز في دعم المقاومة الفلسطينية في مختلف المجالات" يستدعي ردا منسقا وشاملا ومتصلا من قوى المقاومة، ومن جميع الوطنيين في المنطقة".
بيانات الرثاء لسليماني من حركة حماس والجهاد والشعبية وجبهة النضال والقيادة العامة، وإقامة مجالس عزاء في غزة، فيها كثير من النواح واللطم غير مفهوم في سياق شعور هذه الفصائل باليتم النضالي فجأةً
هذه مقتطفات مما جاء في بيانات الفصائل الفلسطينية، في نعي الجنرال الإيراني، تمجيد ممجوج "لقائد لم يجاره أحد" في دونية حركة المقاومة، وانعدام وسائلها وخبرات وقدرات شعبها، ونسف تاريخها كله أمام شخص متهم بارتكاب أفظع الجرائم والانتهاكات بحق الشعب السوري والفلسطيني، فالفلسطينيون الذين صنعوا من روث الأبقار وسائل دفاعهم ضد المحتل لم يكونوا بحاجة لابتكارات سليماني ومؤسسته الشعاراتية التي بيعت للفلسطينيين على مدار عقود، ولم يسقط سليماني في معركة دفاعه لا عن القدس، ولا المقدسات ولا في دفاعه عن الشعب الفلسطيني
كان عائداً من رحلة استكمال تنسيق وهندسة قتل السوريين في مدنهم وقراهم والفلسطينيين في مخيماتهم، التي دمرتها ميليشياته المتحالفة مع جيش عفش ودمر ما تبقى للمنكوبين الفلسطينيين من كواشين الديار وذكريات سبعة عقود، في العقد الأخير لم نسمع بيانات رثاء لفلسطيني واحد قضى في " فرع فلسطين " أو الجوية أو الأمن العسكري، ولم يصدر أي بيان لتلك الفصائل يدين مقتل المئات من أبناء فلسطين في مسالخها الأسدية تحت التعذيب، ولا المطالبة بالإفراج عنهم من معتقلات وزنازين الأسد والسيسي وبن زايد وبن سلمان، حالة الجبن المستمر أمام ذكر فرع فلسطين تكفي لوصف أي ذكرى يراد لها أن تسود وأن تزور
لا يقل أي فلسطيني زهقت روحه ميليشيا قاسم سليماني، أو فلسطينية اغتصبت في فرع فلسطين أهمية عن ملايين الضحايا السوريين والعراقيين التي تسببت بها سياسة طهران ووكلائها في سوريا، لكن أن يتم التغاضي عنهم والدفع والحصر " بالوطنية الفلسطينية " للرد على مقتل سليماني فهذا استهبال وتحقير للضحايا، الوطنية غير ملتفتة لعذابات شعبها في مسلخ الأسد لا يعول عليها نصرة
أشقائها في معتقلات وزنازين العدو، المطالبة بالكشف عن مئات المعتقلين الفلسطينيين ومنهم كوادر تتبع لهذه الفصائل مجهولة المصير في فرع فلسطين هو أهم وأعلى بكثير من النواح والبكاء على مقتل سليماني.
بات مفهوماً، تقديم النضال الفلسطيني بهذه الدونية أمام سليماني أو نماذج الطغاة والمجرمين، لا يريد أحد خسارة الارتهان المالي والسياسي لأجندة لا علاقة لها بالمقاومة، والأخيرة الشعب الفلسطيني قادر عليها ويخوضها منذ قرن قبل سليماني ووكلائه، والذين رحلوا على طريق النضال الفلسطيني هم وحدهم لم يجارهم أحد، القافلة طويلة والسيرة أطول لا تتسع لها هذه الصفحة، لكن لا يجوز إخفاء جزئيتها عند تناول إجرام ميليشيا سليماني بحق أبناء سوريا وفلسطين وأن ترتجف الألسنة والعقول إن اقتربت منها، وتغطية كل ذلك بشعارات لا تنصف القضية ولا أصحابها من الضحايا وذويهم من الأحياء، الذين بقوا دون رثاء ومواساة، ودون قبر يدل عليهم غير مسمى " فرع فلسطين " المانح متعلقات الجثث المختفية أو المذابة مع كلمات فلسطين.