ولكن كان ثمّة في حياة الصبي نساء أخريات لوّن حياته الطرية بألوان قوس قزح، فباكرا جدّا أحبّ الصبي. في البداية اخترع في خياله بنتا وأحبّها. وسمّاها ليلى، وحكى لرفاقه عنها. وجعلها بيضاء البشرة بعينين سوداوين، أقرب إلى الامتلاء، وبشعر قصير كشعر ابنة خالة أمّه التي كان يعشق رائحتها. ولكنه بالغ قليلا في روايته فرفض أصحابه أن يصدّقوها. منها مثلا أنه اصطحبها (وهو في السابعة) إلى مقهى فشربا الليمونادة صارحها بحبّه. لم يقدر الرفاق أن يبتلعوا هذه القصة، وأطرق الصغير خجلا، دون أن يدافع عن كذبته. وبعد ليلى أحبّ الصبي زاهية، جارته في البناية، وكان يمضي معها ساعات طوال، لا يكدّره فيها إلا أن تأتي أختها الصغيرة لتلعب معهما.
ثم جاءت سهر. كان قد تجاوز العاشرة الآن. ومثل جميع رفاق الحارة وقع الصبي في غرام أجمل صبية في الحارة وكلّ الحارات المجاورة. كانت تسكن مع أسرتها في البناية المواجهة لبناية الصغير، في طابق يقع فوق الدكاكين مباشرة، منخفض السقف، يسمونه في حمص "نصيّة". وكانت تعرف أن الصبية جميعا مدلّهون في عشقها، فتفتح أحيانا نافذة غرفتها المطلّة على الحارة، وترميهم بنظرة واحدة عابرة ساحقة، ثم تغوص في الغرفة. وحين تسير في أمسيات الصيف مع أمها، بفستانها الليموني المفوّف بأرانب صغيرة متقافزة، ونسمات حمص الصيفية تداعب غرّتها، كان الأولاد وبينهم الصبي يتسمرّون في أماكننا، دون أن يجرؤ أي منهم حتى قول على كلمة واحدة، وهم يرقبنها جميلةً، أنيقةً، وسامقةً، تفوق معظمهم طولا وعظمة ونبلا، ثمّ تروح مبتعدة عن أبصارهم وإن كانت لا تبارح خيالهم مطلقا.
*****
في عام 1963، سيعرف الصغير السياسة بلونها القاتم من خلال حدثين بائسين. في صباح 8 آذار 1963، أفاق الصغير من النوم على أصوات جلبة وهمهمة وحركة مكتومة في البيت. نهض في فراشه والنعاس لا يزال يسكن عينيه نصف المغمضتين. رأى أباه في حلّة غريبة. كان يرتدي طقما رماديا فاتح اللون ويعتمر طربوشا قديما لم يكن الصبي رآه قط على رأسه قبل ذلك أبدأ. أما الأم فكانت تدور في البيت كنحلة، وأخواه سحبان وبشار يقفان في ممرّ البيت وعلى وجههما علامات ذهول وعجز. وإلى جوار الأب، وقف رجل غريب لم يكن الصبي يعرفه من قبل، يتأمل زيّه الغريب باهتمام.
"هيك منيح،" قال الرجل الغريب.
"شو في؟" سأل الصبي بمزيج من القلق والتوجس والحذر، وهو يرفع رأسه.
"ما في شي،" قالت الأم. "بابا مسافر."
"لوين؟" هنف الصبي وهو يقفز من الفراش.
اقترب الأب منه ووضع يده الكبيرة على رأسه كما كان يفعل حين يستبد بالصبي مرض أو قلق، وقال:
"لن أطيل الغياب." ثمّ قبّل وقبّل الأم والصبيين الكبيرين، ونزل الدرج مع الرجل الغريب. في أسفل البناية كانت تنتظرهما سيارة مرسيدس 180، ابتلعتهما وأقلعت بسرعة لافتة.
بعد ذهاب الأب، شرح بشار الحكاية للصبي. كانت مجموعة من الضباط البعثيين والناصريين قد قامت صباحا باختطاف السلطة في دمشق. طوّقت الدبابات والمدرعات العسكرية المراكز الحساسة في العاصمة دمشق، واعتُقل رئيس الجمهورية ناظم القدسي، وقائد الجيش اللواء عبد الكريم زهر الدين، فيما لجأ رئيس الوزراء، خالد العظم إلى السفارة التركية في دمشق ومنها إلى لبنان.
كان بشار مستشار الصبي السياسي، يشرح لي القضايا السياسية المغلقة عليه. ومنه علم أن الرجل الغريب كان مهرّبا سيصحب أبي في الطريق إلى لبنان، حيث سيساعده على مغادرة سوريا هربا من الحكم الجديد. فتح سحبان الراديو، وسمع الصبي أحد المذيعين في إذاعة دمشق وهو يعيد تلاوة البيان رقم 1 مرّة كل خمس دقائق، تفصل بينها مارشات عسكرية. ثمّ جاءت بعده مذيعة خشنة الصوت، فتلت البيان رقم 2، وفيه أعلن مجلس قيادة الثورة الذي ترأسه الفريق الحمصي لؤي الأتاسي، إغلاق كافّة الصحف ومصادرة ممتلكاتها. وجاء اسم الأب وجريدته "الفجر" أوّل اسم في صحف مدينة حمص. ولا يزال الصبي يذكر كيف اضطرب قلبه في ضلوعي وأنا أسمع اسم "أحمد نَورس السوّاح"، وأدرك لأول مرّة أن اسم أبيه نَورس (بفتح النون) وليس نُورَس، كما كان يلفظه في المدرسة حين كان يُسأل عن اسمه الكامل. وانتابت الصبي مشاعر متلاطمة، فقد حزن لأن الأب سيخسر جريدته ومطبعته، ولكنّ شعورا بالغبطة كان يحتلّ جزءا آخر من مشاعره وهو يعلم الآن أن أباه كان شخصا مهمّا، يحسب له حساب ويذكر اسمه في الراديو. في اليوم التالي، في المدرسة، انتظر أن يسأله أصحابه عن أبيه، وحين لم يفعلوا، بادر الصبي، فقال لصديقي الأقرب، غانم الجمالي، "مبارح هرب أبي ع بيروت. طلع اسمه عَ الراديو." كان غانم أيضا من عائلة سياسية. عمّه حافظ كان صديق الوالد المقرّب، وأخواله كانوا قادة شيوعيين معروفين. نظر إليه بتعاطف، ونصحه: "لا تقل ذلك لأحد!"
بعد يومين، أفاق الصبي وأمه وأخواه مفزوعين على قرْع جرس باب البيت عند الفجر، وعصف في البيت نحو عشرة رجال ضخام قلبوا عاليه أسفله. دخلوا غرف النوم وفتحوا الخزائن. صعد أحدهم السلّم الخشبي إلى السقيفة وبحث بين مونة البصل اليابس والكراكيب العتيقة عن الأب. بينما نظر آخرون تحت الأسرّة، وقلب أحدهم إحدى الفرشات. لم يكن الأب تحت الفرشة. كان قد وصل بيروت آمنا. وكانت الأم تنظر إليهم بشماتة:
كانت الأم امرأة فاتنة، قويّة، ربّت أولادها وحدها تقريبا، فحين كان الأب مشغولا بجريدته واجتماعاته السياسية وانتخابات البرلمان، ثمّ سهراته مع أصحابه في قهوة "الفريال" أو مطعم الأمير، وأحيانا مغامراته الصغيرة هنا وهناك، كانت الأم هي من تهتمّ بالبيت والأولاد. ستمرّ عليها أيام قاسية بعد انقلاب آذار، ولكنها ستقود السفينة بمهارة وحذق. باعت أساورها، وباعت السجادتين العجميتين اللتين كانتا، على أية حال، مركونتين في إحدى الخزانات، ولم تطلب
كانت لا تزال ذكرى انفصال سوريا قبل عامين طازجة في خياله، وهو يذكر أخاه بشّار يقفز فوق الكنبة فرحا برحيل عبد الناصر
مساعدة من أحد. في النهارات كانت تطبخ وتأمر وتنهي، تزور أمها أو أختها أو صديقتها أم رينيه، وتضحك أحيانا، ولكن الصغير سمعها أكثر من مرّة في الليل، وهي تنتحب بصمت. كثيرا ما سيكون غداء الأسرة شوربة عدس أو "لبن مقلّى" وهو خبز مفتوت في اللبن وعلى وجهه تقلية سمن.
سيشعر الصبي بحقد خاص على حزب البعث لأن الأزمة طالته شخصيا، فقد قرّرت الأمّ تخفيض خرجيته (مصروفه اليومي) من ثلاثة فرنكات إلى فرنكين. وكان ذلك يعني الكثير، فقد بات غير قادر على شراء الشكولاتة المفضلة لديه. ولكن الفرنكين لم يكونا سيئين جدا، فبهما كان يمكنه أن يشتري قرص معمول فاخرا أو إستيكة بوظة الأمير بنكهة الموز، لم يزل طعمها تحت لسانه بعد مرور سنوات وعقود طويلة، وأهم من ذلك، كان يمكنه أن يستأجر بالنقود دراجة هوائية لمدة ربع ساعة.
*****
كانت لا تزال ذكرى انفصال سوريا قبل عامين طازجة في خياله، وهو يذكر أخاه بشّار يقفز فوق الكنبة فرحا برحيل عبد الناصر، حين رأى أخاه نفسه، يصيح بانفعال:
"قتلوا كينيدي!"
كان الصبي قد لبس صدرية المدرسة السوداء، وحمل حقيبته ليذهب إلى المدرسة. كان بشار محلّل العائلة السياسيّ، يستمع لنشرة الأخبار كلّ يوم قبل ذهابه إلى المدرسة. اقترب الصغير من أخيه يحاول أن يفهم:
"مين كينيدي؟"
كان بشّار مشغولا بسماع الخبر، وجاءت الأم وسحبان فتحلّق الثلاثة حول الراديو. الأب كان لا يزال هاربا من حكم البعث في بيروت. والصغير يجيل أبصاره بينهم دون أن يفهم شيئا؟
"مين كينيدي؟" كرّر بإصرار. وكالعادة تطوّع بشار بشرح الأمر له، بصبر أناة. بعد سنوات سينتسب بشار للحزب الشيوعي السوري ويصبح قياديا فيه، وسيختلف مع الصبي الذي سيتجه يسارا أكثر، ولكنه سيظلّ مستشاره السياسي رغم كل شيء. ومن بشار فهم الصغير أن كينيدي هو رئيس أمريكا، وقد اغتيل أمس. في ذهن الصغير كان ثمّة سؤال يدور: "هل كينيدي أهم من عبد الناصر؟" لم يكن الصبي يعرف أن ما سمعه صباح ذاك اليوم سيكون أشهر قصّة اغتيال في التاريخ المعاصر. لم يكن يعرف كينيدي ولا هو سمع بـ "لي هارفي أوزوالد" الذي لا يزال العالم بعد خمسة عقود يبحث عن المبرّر الحقيقي لهذا الرجل الهادئ، غريب الأطوار، ليقدم على قتل أهم رجل في العالم.
فيما بعد سيحاول الصغير وقد كبر أن يتعرّف أكثر على أوزوالد. سيعرف أنه سلّط الأضواء عليه حين سافر فجأة إلى الاتحاد السوفييتي، والتقى بأشخاص معروفين منتمين إلى الحزب الشيوعي الروسي. كانت حياة أوزوالد مع زوجته مليئة بالإضرابات. إلا أنه قبل يومين من وقوع العملية ضد كينيدي، بدا أوزوالد هادئاً، إذ لم يدخل في جدال مع زوجته مارينا. ومع هذا، فإنّ ما كان يخطّط له أوزوالد كبير جداً، إذ كان يحتفظ ببندقية ملفوفة بغطاء في مرآب منزل باين الذي يسكنه مع زوجته. وقبل ساعات من تنفيذ العملية، أبلغ أوزوالد أنه سيبقى في تكساس ولن يعود نهاية الأسبوع، حيث كان لديه وظيفة جديدة في مستودع الكتب المدرسية الذي يطلّ على ديلي بلازا، حيث قتل كينيدي. حينها، دخل أوزوالد إلى مرآب المنزل، ثم عاد وأخذ قسطاً من النوم. وبعدما استيقظ في وقت متأخر، أخبر زوجته أن هناك مالاً في الخزانة. ومن دون أن تلاحظ الأخيرة، أفلت خاتم زفافه وتركه في فنجان. وبعد بضع ساعات من ذلك، قتل جون كينيدي في دالاس. هل كان أوزوالد هو القاتل فعلا؟ ولماذا أقدم بعد أيام رجل اسمه جاك روبي وهو صاحب ملهى ليلي محلي على قتل أوزوالد في السجن؟ وما علاقة كلّ ذلك بالفلسطيني سرحان بشارة سرحان الذي سيقتل شقيق جون كينيدي، روبرت؟ بعد خمس سنوات؟ كلّ تلك أسئلة سيشغل الصغير بها باله فيما بعد. أما صبيحة ذلك اليوم، فسيحمل حقيبته المدرسية ويذهب إلى المدرسة، مبكرا بعض الشيء، ليلعب مع رفاقه في الباحة قبل الدرس الأول.